حديث مختلق من ضروب الخيال دار بين البرغي والمسمار.. في البداية انطلق هذا الحديث من المسمار - بسبب ما يتعرض له من ضغوطات - فقال مخاطبا البرغي: في كل مرة تأتيني الضربات على رأسي، حتى خارت قواي ووهنت عزائمي، فماذا أصنع؟!
فرد عليه البرغي قائلا له: هذه الضربات أنت السبب بها! لأنك واقف ثابتا طوال الوقت، لذلك تأتيك الضربات تباعا! وحتى تسلم من الضربات ومن الأذى المتكرر عليك ممارسة «اللف والدوران» مثلي، فأنا لأنني «ألف وأدور» عشت حياتي سالما من الضربات، وتجاوزت ما أنت فيه من ألم!
انتهى حديثهما.. ولكن يبدو أن البرغي قد أخفى بعض مميزاته عن المسمار، حيث إنه يملك خواص لا يملكها المسمار، أبرزها تلك الأسنان الملتوية التي تعينه في شق الجدار بمرونة!
وهذا الحوار بين البرغي والمسمار هو حوار نلمسه أحيانا في عالمنا الواقعي، حيث إن بعض البشر يعيشون حياة «البرغي»، ويمارسون اللف والدوران في جل شؤون حياتهم وطوال الوقت، وهناك بعض آخر يعيش حياة (المسمار) ويتلقى الضربات تلو الضربات طوال الوقت!
وهنا يثار تساؤل: ما هو المسلك الصحيح؟ وهل الثبات طوال الوقت كحال المسمار هو الصحيح!؟ أم أن اللف والدوران طوال الوقت كحال البرغي هو الصحيح؟!
وبوجهة نظري المتواضعة، أرى أن الإجابة عن هذا التساؤل هي إجابة سهلة وغير محيرة، فالبرغي قد مارس «المرونة» بشكلها السلبي، حتى سلبت إرادته، والمسمار قد مارس «الثبات» بشكله السلبي حتى سلبت راحته، فنحن هنا بين الثبات السلبي، والمرونة السلبية، والصواب هو أن التعاطي مع الحياة يجب أن يكون مزيجا من «الثبات والمرونة»، وبحسب الموقف أيضا، فهناك مواقف تستوجب المرونة ويعتبر خيار الثبات بها خيارا أعوج، ومواقف أخرى تستوجب الثبات ويعتبر خيار المرونة بها خيارا أعوج.
وعلى سبيل المثال.. لو أنك في الطريق وخلال قيادتك لسيارتك، جاء أمامك دوار - ميدان - فهل تمارس الثبات وتستمر بالمضي دون التفاف؟ أم أنك تمارس المرونة حتى تتجاوز الميدان بنجاح؟! وإذا مارست المرونة هنا فهل تعتبر متلونا ومراوغا؟!، ففي هذا الموقف يجب عليك المرونة حتى تتجاوز الميدان، بل إن من صور الثبات أن تمارس المرونة في موضع المرونة، فالثبات المطلق أمام متغيرات الحياة هو ثبات غير موفق، ولكن «الثبات الحكيم» هو الثبات الموفق، فالحكمة هي من توجه الإنسان إلى الخيار الصحيح بين «الثبات والمرونة»، وعند كل موقف من مواقف الحياة المختلفة.
ودعونا نتفلسف بعض الشيء قبل ختام هذا المقال الذي تفوح منه رائحة «المناجر» ويبدو وكأنه قد كتب على يد «نجار» عاش بين أروقة المنجرة، ولكن الحياة منجرة كبيرة، أليس كذلك؟!
ونعود إلى الفلسفة.. ودعونا نتشارك بالتفكير حتى نصل إلى فائدة ما، ونفكر بحال البرغي من نواح أخرى!، فالبرغي يتعامل مع الجدار بطريقة مختلفة، حيث إنه يملك أسنانا تجعله يخترق الجدار بكل مرونة، إذن هو وضع لنفسه أشياء معاونة تحفظ له السلامة من الضربات وفي الوقت نفسه تجعله يخترق الجدار بسلاسة وسهولة ويصل إلى متبغاه، ولكن كل هذا يتم من خلال إرادة غيره، وهذا ما يجعلنا نكره طبيعته «المرنة» بهذا الشكل!، أما المسمار فهو مجرد من الأسنان ويتعاطى مع الجدار بطريقة حادة للغاية، وكذلك لا يملك إرادته، وهذا ما يجعلنا نكره طبيعته «الجامدة والثابتة» بهذا الشكل!، ولذلك يتحمل المسمار الضربات وبنفس الوقت قد ينصدم بالجدار!، فما هو العمل الصحيح إذن؟!
الصحيح هو أن تملك إرادتك أولا وأخيرا، وتكون ثابتا كالمسمار.. وبنفس الوقت تملك الأسنان المرنة التي تحفظ لك سلامتك من الضربات.. كالبرغي!
بسم الله الرحمن الرحيم: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً).
HaniAlnbhan@