يقال: جالسوا الناس بحجم عطائهم، واحملوهم على قدر عقولهم، واصعدوا إليهم ولا تدعوهم ينزلون إليكم، واحذروا أن تلبسوهم جلودكم، ولا تفرضوا عليهم رأيا، ولا تطعموهم من لحومكم بذكر مساوئ بعض من هم في مجالسهم، فهم يختارون بعناية فائقة من يجلسون معهم، ولا تظن أنك قد ملكت زمام العقل؛ لأن نصف الرأي الآخر يحمله من يجالسك، ولا تعمم في حديثك فإن التعميم من العمى.
فإن الاعتقاد القلبي والكلام اللساني وعمل الجوارح قضية واحدة، تعني أن الكلام، أو الكلمة لها ارتباط بالاعتقاد، وقد وردت أدلة شرعية ـ بدون حصر ـ من كتاب الله تعالى ـ وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تدل على أن الكلام من أعمال المسلم التي يحاسب بمقتضاها، وأنه يترتب عليه من الثواب أو العقاب ما الله به عليم، يقول المولى عز وجل (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، ويقول سبحانه وتعالى: (وإن عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون)، هذه الآيات وغيرها تبين خطورة الكلمة، والكلام في دين الله عز وجل معدودة على قائليها، وأنهم محاسبون على ما يتكلمون، لأن الكلام من جملة الدين الذي يسأل الإنسان عنه، وكذلك جاء في السنة المطهرة الكثير من الأحاديث التي تثبت خطر الكلام، وأثره في دين العبد ثوابا، أو عقابا، فمن ذلك حديث معاذ بن جبل أنه قال: «يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار ـ أو قال علي مناخرهم ـ يوم القيامة، إلا حصائد ألسنتهم».
لذلك يكون الصمت أحيانا أفضل من الكلام، خصوصا حينما يحملنا العصف الذهني على العجز في الوصف وقد يعجز اللسان عن التعبير في بعض الأحيان، ومن تلك النصوص أعلاه وغيرها يتبين أن الكلمة في دين الله عظيمة الشأن، من حيث الربح أو الخسارة، ولله در ابن القيم عندما قال: وأما اللفظات فحفظها بألا يخرج لفظة ضائعة، بألا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر، هل ربح فائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر، هل تفوت بها كلمة هي أربح منها فلا يضيعها بهذه؟ إلى أن قال: ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر إلى المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحرز من حركة لسانه.
فكل واحد منا على خطر دائم مما يجنيه لسانه، ولو كان مجرد كلام فيما لا يعنيه، وما أكثر ما نتكلم به فيما لا يعنينا، وعن أنس قال: «استشهد غلام منا يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئا لك يا بني الجنة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره»! ولهذا يكون الصمت أحيانا افضل من الكلام لأنه أضمن طريق للنجاة من ورطات اللسان.
فلنحذر جميعا أشد الحذر أن تخرج من أفواهنا الألفاظ التي لا نعي معناها، فقد تكون من كلام الشر والسوء التي تضرنا في دنيانا وآخرتنا، فالكلام الفاسد والعمل الفاسد، لا تشفع له النية الصالحة، والنية السيئة الخبيثة لا يشفع لها العمل الصحيح والكلام الحسن، والمطلوب هو استواء النية الحسنة بالعمل الصالح.