كشف الاجتماع الأخير لمجلس الاحتياطي الفيدرالي عن نبرة متشددة حيال آفاق السياسة النقدية، رغم تثبيت معدلات الفائدة للمرة الثانية منذ مارس 2022، لكن الأسواق المالية لاتزال تحتفظ بوجهة نظر مختلفة عن توقعات الفيدرالي، في إشارة إلى استمرار هوة الخلاف بين الجانبين.
وأصدر الاحتياطي الفيدرالي مسارا متوقعا للسياسة النقدية في اجتماعه الأخير في 20 الجاري، وقرر الفيدرالي في هذا الاجتماع تثبيت معدلات الفائدة دون تغيير عند نطاق 5.25% و5.50%، وفي آخر 13 اجتماعا للسياسة النقدية، رفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة 11 مرة منذ مارس 2022، وتوقع الاحتياطي الفيدرالي في اجتماعه الأخير إقرار زيادة إضافية في معدلات الفائدة قبل نهاية العام الحالي لتسجل متوسط 5.6%، وهو المستوى المتوقع نفسه في يونيو الماضي، فيما تبلغ احتمالية تثبيت الفائدة الأميركية في اجتماع نوفمبر المقبل نحو 74%، كما وصلت فرص التثبيت في اجتماع ديسمبر إلى حوالي 60%، وبعيدا عن توقعات الأسواق، تشير رؤية بعض شركات «وول ستريت» إلى توقعات متباينة بشأن نهاية دورة التشديد النقدي.
ويعتقد محللو «مورجان ستانلي» و«جولدمان ساكس» أن الفيدرالي الأميركي لن يرفع معدلات الفائدة مجددا في العام الحالي، لكن بنوك «باركليز» و«بنك أوف أميركا» و«سيتي جروب» تعتقد أن الفيدرالي قد يرفع الفائدة 25 نقطة أساس في اجتماع نوفمبر المقبل.
الجدل حول خفض الفائدة
لم يقتصر الخلاف بين الفيدرالي والأسواق على نهاية دورة التشديد النقدي، لكنه امتد إلى موعد ووتيرة خفض الفائدة في العام المقبل، وألمح البنك المركزي الأميركي إلى أن معدلات الفائدة سوف تستمر عند مستويات مرتفعة لفترة أطول، مع إرجاء خطط التحول لخفض الفائدة، وقلص الفيدرالي الأميركي توقعاته لعدد عمليات خفض الفائدة المتوقعة في عام 2024، ليتوقع وصول الفائدة إلى 5.1% بنهاية العام المقبل من تقديراته السابقة البالغة 4.6%.
وتشير توقعات الفيدرالي إلى إقرار عمليتي خفض للفائدة في العام المقبل، مقابل 4 عمليات خفض كانت متوقعة سابقا، كما أشار الاحتياطي الفيدرالي إلى أن معدلات الفائدة في عام 2025 قد تصل إلى 3.9% مقارنة بتقديرات صادرة في يونيو عند 3.4%، لكن العقود المستقبلية تشير إلى أن الأسواق تتوقع وصول الفائدة الأميركية إلى 4.65% بنهاية العام المقبل، ولايزال بنك «مورجان ستانلي» يتوقع بدء خفض الفائدة الأميركية في شهر مارس 2024. وقال اقتصاديو البنك إنهم يتوقعون قيام الفيدرالي بخفض الفائدة الأميركية بمقدار 100 نقطة أساس كاملة في العام المقبل.
ويعتقد بنك «باركليز» أن البنك المركزي الأميركي سيخفض الفائدة في آخر ثلاثة اجتماعات من عام 2024 وبينما أرجأ محللو «جولدمان ساكس» توقعاتهم لبدء قيام الاحتياطي الفيدرالي بخفض الفائدة إلى الربع الأخير من العام المقبل بدلا من التقديرات السابقة التي كانت تشير لبدء الخفض في الربع الثاني.
توقعات اقتصادية مختلفة
تأتي وجهة النظر المتباينة للأسواق المالية ومحللي «وول ستريت» مقارنة بتلك التي يقدمها الاحتياطي الفيدرالي مع اختلاف التوقعات حيال الآفاق الاقتصادية للولايات المتحدة، وفي الوقت الذي يتوقع فيه الفيدرالي استمرار التضخم الأساسي أعلى المستهدف حتى نهاية عام 2025، فإن «وول ستريت» تبدي نظرة أكثر تفاؤلا حيال الأمر، ويتوقع البنك المركزي الأميركي وصول مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي - المؤشر المفضل لدى الفيدرالي لقياس التضخم - إلى 2.6% بنهاية العام المقبل و2.3% في 2025، مقارنة بالمستهدف البالغ 2%.
وفي حين يرى «بريستون كالدويل» كبير الاقتصاديين الأميركيين في «مورنينج ستار» أن مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي سيتباطأ إلى 1.9% بحلول نهاية عام 2024، وأشار «كالدول» إلى أنه لايزال يتوقع وتيرة أسرع لخفض الفائدة الأميركية مما يتوقعه الفيدرالي حاليا، وكان مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الأميركي قد وصل للذروة عند 7% في صيف 2022، قبل أن يتباطأ عند 3.3% في يوليو الماضي.
وبالإضافة إلى اختلاف الرؤى بشأن التضخم، تبرز التوقعات المتباينة بين الأسواق والفيدرالي حول النمو الاقتصادي وسوق العمل ضمن أبرز أسباب الخلاف بشأن آفاق السياسة النقدية. وقال رئيس الفيدرالي «جيروم باول» في المؤتمر الصحافي عقب قرار السياسة النقدية الأخير إن التوقعات الجديدة لأعضاء لجنة السوق المفتوحة تم تشكيلها من خلال الأداء القوي بشكل غير متوقع للاقتصاد في مواجهة عمليات رفع الفائدة.
لكن العديد من الاقتصاديين يعتقدون أن تراجع الزخم في الاقتصاد وسوق العمل الأميركي من شأنه إنهاء فرص القيام بمزيد من التشديد النقدي هذا العام مع التحول لخفض الفائدة بشكل سريع في 2024، ويرى محللو «تي دي سيكيوريتيز» أن الاقتصاد الأميركي سيتباطأ في الربع الرابع من العام الحالي، مع تراجع عدم التوازن بين المعروض والطلب في سوق العمل.
سلسلة من التوقعات الخاطئة
قام الاحتياطي الفيدرالي بعديد من التوقعات الخاطئة خلال السنوات القليلة الماضية، ما أضعف مصداقية البنك فيما يتعلق بصحة ودقة تقديراته بالنسبة للمستثمرين، وبداية التوقعات الخاطئة تمثلت في رؤية الفيدرالي ومسؤوليه في عام 2021 بأن أي ارتفاع في معدلات التضخم سيمثل أمرا مؤقتا غير قابل للاستمرار، ومع استمرار تسارع التضخم الأميركي، اعترف مسؤولو الفيدرالي بخطأ تقديراتهم وقاموا بواحدة من أقوى دورات التشديد النقدي بداية من مارس 2022.
كما أخطأ الفيدرالي في توقعاته لمسار معدلات الفائدة، حيث توقع في ديسمبر 2021 أنه سيقوم بزيادة الفائدة 3 مرات فحسب في عام 2022 لتصعد إلى 0.9%، لكن الواقع أظهر أن البنك المركزي الأميركي رفع الفائدة 7 مرات في عام 2022 لتصل إلى نطاق 4.25% و4.50%.
وآخر التوقعات الخاطئة للاحتياطي الفيدرالي كانت تتعلق بالنمو الاقتصادي الأميركي في العام الحالي، وتوقع الفيدرالي في شهر مارس الماضي نمو الاقتصاد الأميركي بنحو 0.4% فحسب في عام 2023، مع احتمالية حدوث ركود اقتصادي محدود في وقت لاحق من العام، وعدل البنك توقعاته في يونيو الماضي ليرى نموا بنسبة 1% هذا العام، مع استبعاد اقتصاديي الاحتياطي الفيدرالي دخول الاقتصاد في حالة ركود، بينما حدث الفيدرالي في اجتماعه الأخير توقعاته للنمو الاقتصادي إلى 2.1%، ليضاعف توقعاته للنمو هذا العام.
ويعود سبب فشل الكثير من التوقعات الاقتصادية للفيدرالي أو غيره من المؤسسات إلى وجود بعض التحيزات أثناء القيام بالتقديرات، بالإضافة إلى الافتقار إلى المعلومات الكافية الصحيحة اللازمة للتوقع السليم.