بداية الحكاية كما روتها لنا صديقتنا الحاضرة الغائبة، تقول: عندما زرت صديقتي لأهنئها في مناسبتين عزيزتين، قدومها من فلسطين وبيت المقدس والصلاة في المسجد الأقصى وعقد قرانها على شاب غزاوي من أقربائها، فكانت سعادتي لها لا توصف، جلسنا طويلا واخذنا نتجاذب أطراف الحديث وكنت أسألها بشوق عن سفرها إلى أرض الكفاح «فلسطين الحبيبة» وكيف كانت مشاعرها وهي تسجد في ساحة مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، تارة تصف لي جمال الروحانيات وجمال السكينة التي يشعر بها المرء في مثل هكذا حاله، وبدأت أتشوق وأحلم بزيارة «الأقصى» من شدة جمال وصفها لعظمة المكان، وتارة يأخذنا الحديث إلى خطبتها في قطاع غزة، وما هي ترتيباتها للعرس، وما هي المستلزمات التي تحتاجها، وبما أنني صديقتها الصدوقة عرضت عليها أن أقوم بأي خدمة قد تطلبها لإتمام مراسم زفافها المنتظر.
وفي آخر اللقاء بتّ أبحث في غرفتها عن شالتي (غطاء رأسي) لأهم بالمغادرة، فقامت صديقتي بالوثوب مسرعة الى خزانتها لتلتقط لي سجادة الصلاة المنقوش عليها «قبة الصخرة» وكيس من الزعتر الفلسطيني وقنينة زيت الزيتون، ولأنني أتميز عن بقية الصديقات فقد أحضرت لي «أسوارة» من أسواق غزة العظيمة، فقد حظيت «بأسوارة» من الذهب المطلي بعلبة من الكريستال البراقة.
فرحت بهذه «الأسوارة» فرحا جما، وذهبت الى منزلي وضعت كل شيء جانبا وأخذت «الأسوارة» بلهفة وفرح وقمت بارتدائها، إنها في غاية الجمال مشغولة بأيادي مهرة، براقة ذات طراز رفيع وتاريخ عريق، كدت أجزم بأنها ذهب صاف وليست مطلية بالذهب كما أخبرتني صديقتي ـ لا يهم ـ لكنها جميلة وأشتم بها رائحة فلسطين، ورنينها يوقظ إحساس العروبة لدي، وهكذا مرت الأيام والسنين وأنا أفتخر بهذه الهدية ولا أقبل أن أعيرها لأحد أطلاقا، فهي أولا هدية من الصديقة المقربة لي، وثانيا أنني أحب ارتداءها في كل الأوقات.
في بداية الأمر كنت انزعها من يدي عندما اقوم بتنظيف البيت خوفا من ان يتغير لونها كونها مطلية، ولكن مع مرور السنين بت أنساها في يدي وقت التنظيف وتتعرض «الأسوارة» الى المواد الكيميائية ومواد التنظيف فصرت ألاحظ ثبات لونها وأنها لا تتغير كما هي الحلي المطلية، وفي يوم ما جاء استفسار من إحدى صديقاتي لما لا أعيرها هذه «الأسوارة» لتتزين بها في عرس أخيها، وعند رفضي ذلك كان جوابها الصاعق أشك أنها مطلية بالذهب! وإلا بما تفسرين اهتمامك بها؟ حتى بريقها ما خفت يوما طول تلك السنين وهي في معصمك، هنا توقفت بيني وبين نفسي، هل يعقل أن تكون هذه «الأسوارة» من الذهب الخالص فعلا؟!
كلماتها حركت في نفسي الفضول هل ما أرتديه فعلا نفيس أم أنها مجرد حلقة من المعدن المطلي؟
لم أكذب خبرا، ففي الصباح الباكر هممت الى أقرب محل للمصوغات والمجوهرات، وعلى عتبة المحل تلعثمت قدماي، فبت حائرة كيف سأدخل؟ وماذا أساله؟ وأنا أعرف حقيقة ما في يدي مجرد معدن لا صوت له. وأنا على عتبة ذلك المحل بت بين صراعين صوت بداخلي يقول لي ادخلي يكفيك شرف المحاولة، وصوت آخر يقول تجنبي إحراج نفسك وعودي أدراجك، وما كان يجدر بك الخروج من بيتك لمثل هذا الأمر أصلا. بعد تلك المسافة الطويلة التي قطعتها لابد أن يكون قراري صائبا وبلحظة اندفاع دخلت المحل دون أن ألتفت خلفي وكأنني هاربة من قدر ما، نظر إلي صاحب المحل بابتسامة لطيفة وقال أهلا بأولى الزبائن واستفتاحية جميلة من فتاة جميلة، ماذا تريد زبونتنا شراء أم بيع؟ فقلت بحماس أريد البيع، بكم تساوي هذه «الأسوارة»؟
البقية غداً