دعونا نبدأ بهذا الخبر الافتراضي، بأن «بعض الجهات الخيرية والإنسانية الخليجية الكبرى، التي تبرعت بسخاء للبنى التحتية الطبية والتعليمية في قطاع غزة، قد قررت تأسيس تحالف لرفع دعاوى قانونية أمام الهيئات الدولية لمقاضاة إسرائيل وإلزامها بالتعويض عن الدمار الذي ألحقته بما تبرع به أهل الخير من ملايين الدولارات على امتداد سنوات!». كان هذا خبرا افتراضيا استباقيا، لتوضيح ما تمنيت فيه مجددا وكتبت عنه سابقا بعنوان: «الصهاينة يدمرون ونحن ندفع للتعمير!»، من ضرورة قيام المنظمات الإنسانية والخيرية الكبرى والمانحين الخليجيين والدوليين وغيرهم، الذين تبرعوا بكرم لقطاع غزة على مدى العقود الماضية، بتوظيف جزء من جهودهم وعملهم ومصادرهم والتبرعات حصلوا عليها في ردع المعتدي، الذي أمعن في القتل والتدمير في عدوانه الحالي غير المسبوق، الذي تسبب في خسائر بشرية مباشرة لا تقدر بثمن في حين تشير التقديرات الرسمية الأولية إلى أن حجم الخسائر المادية لا يقل عن نحو 12 مليار دولار، شاملة البنى التحتية الأساسية، دون احتساب الخسائر المادية غير المباشرة التي لا تزال تحت الدراسة، الأمر الذي يوفر الأساس لمطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته في محاسبة الجاني، لا مطالبة الجهات المانحة كالعادة عقب كل عدوان بتقديم الدعم لإعادة الإعمار!
إن الأحداث المأساوية التي تشهدها غزة، تبرز الحاجة الماسة إلى البحث عن طرق فعالة لتحقيق العدالة وردع الظالم، وفداحة الخسائر الإنسانية والمادية المتراكمة تنادي بضرورة محاسبة المتسببين، وفي هذا المسار برزت مؤخرا مبادرات تستحق المساندة، مثل مبادرة المحامي الفرنسي «جيل دوفير» الذي جمع 400 محام دولي لتقديم دعوى ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في المحكمة الجنائية الدولية، التي وجد أن وصفها قانونيا قد تحقق بالحصار وانعدام الغذاء ومنع الوقود، أو عن طريق القصف والتهجير!
تاريخياً، كانت هناك سوابق لنجاح الدعاوى في إلزام إسرائيل بدفع تعويضات حتى لو كانت بسيطة، ولكن تبقى لها رمزيتها وأثرها، كما حصل لعائلات الضحايا الأتراك في حادث سفينة مرمرة التركية 2013، وللأمم المتحدة بقيمة 10.5 ملايين دولار عن المباني التي دمرها القصف خلال العدوان الإسرائيلي في 2008-2009، دون تأمين تعويضات لضحايا الهجمات من موظفي الأمم المتحدة وغيرهم من المدنيين، الأمر الذي انتقدته منظمة العفو الدولية وقتها، ومع ذلك يمكن الاستناد إليها لمطالبة إسرائيل بدفع تعويضات عادلة عن الأضرار التي لحقت بالمؤسسات والمباني والبنية التحتية التي تبرعت بها جهات خليجية، كما تم مع الأمم المتحدة مع إدراكنا لفارق القوة والتأثير وضعف احتمالية نجاحها مع الكيان المحتل المتغطرس!
كان للمنظمات الخيرية والمانحين الخليجيين دور محوري في دعم غزة، وبوسع تبرعاتهم أن تتحول إلى وسيلة للضغط القانوني والسياسي على إسرائيل رغم التحديات القانونية والسياسية الكبيرة التي تواجهها الدعاوى القانونية، وربما عدم نجاحها في تحقيق الإدانة والحصول على تعويضات، إلا أنها ستسهم في تسليط الضوء إعلاميا وسياسيا على جرائم إسرائيل وزيادة الضغوط الاقتصادية والسياسية عليها.
ويشار هنا إلى الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا، والتي قبلت إسرائيل المثول أمام محكمة العدل الدولية لمناقشتها، واستنفرت سفاراتها حول العالم لحشد ضغط دولي ضدها، فرغم أن أي قرار من المحكمة بأن إسرائيل ارتكبت الإبادة الجماعية في غزة لن يغير من سلوكها عسكريا، إلا أنه سيلحق ضررا فادحا بسمعتها عالميا، وسيمكن المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية من النظر في اتخاذ خطوات ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين.
الأحداث الأخيرة في غزة أبرزت أبعادا جديدة لكيفية استخدام التمويل والتبرعات في الصراع، على سبيل المثال، أشارت عدة مصادر، ومن خلال ما تمكنت من متابعته بنفسي، إلى وجود دعم مالي معتبر لدعم كل طالب من جامعات الولايات المتحدة بمبلغ 250 دولارا أميركيا لتغطية مصاريف مشاركته في تظاهرة واشنطن لدعم إسرائيل! هذا يعكس فهماً أعمق لطبيعة الصراع، ويبرز الحاجة إلى نهج شامل يأخذ في الاعتبار دور المتبرعين ويوسع نطاق عمل بعض الجهات، حتى لو لم يكن هذا الدعم مرتبطا بشكل مباشر بأنشطة تلك الجهات الأساسية.
تظل المساهمات المالية والتبرعات المقدمة لإغاثة غزة عنصرا مهما في الحل، لكنها وحدها لا تمثل الحل الكامل. ومع ذلك، علينا أن نستخدم جميع الوسائل المتوافرة لدينا، سواء كانت هذه الوسائل قانونية أو سياسية أو إعلامية، دون إغفال أي جهد يمكن أن يسهم في كسب المعركة ومنع حدوث الاعتداءات مستقبلا ولتقليل الأضرار الفادحة التي قد تنجم عنها عندما يستخدم الكيان المحتل قوته بغطرسة!
[email protected]