- رمضان لم يكن شهر خمول وتكاسل بل شهر أجلّ الأعمال في تاريخ الإسلام
- الأدب الرفيع شعراً ونثراً أبدع ناظموه في الترحيب بقدوم الشهر الفضيل
- كم كان جميلاً لو استمرت الاحتفالات بالأحداث الإسلامية المهمة في تاريخنا
بقلم د.يعقوب يوسف الغنيم
الحلقة الأولى
ها نحن نعيش - من جديد - شهر رمضان المبارك، شاكرين الله عز وجل على ذلك، راجين تمكيننا من إتمام صيامه وقيامه.
من المعروف أن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يصح إسلام المرء إلا بأدائها. وقد بين الله عز وجل قدر شهر رمضان، وأكد ضرورة صومه في الآية رقم 185 من سورة البقرة، وهي الآية الكريمة التي نصها:
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
وقد ظهر لنا فيها أن من فضائل هذا الشهر نزول القرآن الكريم في يوم من أيامه، والقرآن فيه هدى للناس جميعا، وفيه يفرق بين الحق والباطل، لذا فإن صيام هذا الشهر فرض على المسلمين. ولكن الله سبحانه وهو الرحيم بعباده، يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر أوجب الصيام على من شهد هلال هذا الشهر وهو مقيم في بلاده. ويسر على العباد في حالتي السفر والمرض فأباح للمسافر والمريض الإفطار على أن يصوما في أيام أخرى من شهر آخر.
وقد اهتم المسلمون الأوائل منذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بأداء الصيام، وبتعظيم شهر رمضان، فكانوا يصومون ملتزمين بكل ما حدده لهم الشرع الشريف. وكانوا يؤدون صلوات التراويح والقيام، ويحثون أهلهم وأولادهم على ذلك كله.
وأفردت كتب الحديث أبوابا خاصة بالصيام، وذكرت روايات الصحابة الكرام لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، وأيسر الكتب التي تضم الحديث الشريف تناولا هو كتاب: «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان»، وهما البخاري ومسلم. وقد جمعه الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي، وطبعته في الكويت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فجعلته في متناول الجميع.
تأتي الأحاديث المتعلقة بالشهر الكريم وصيامه تحت عنوان شامل هو: «كتاب الصيام». ثم تأتي بعد ذلك أبواب تفصل محتواه، وهو يبدأ ببيان فضل هذا الشهر، ومتى يبدأ المسلم صومه، ومتى يفطر، ولم تترك الأحاديث الشريفة جانبا يحتاج الصائم إلى معرفته إلا وقد أوضحته. فقد ورد فيها ذكر كيفية صيام اليوم الأول، وترقب هلال شهر شوال استعدادا للإفطار يوم العيد. ودلت على منع مواصلة الصيام بحيث يمضي المسلم يومين أو أكثر حتى يفطر، إذ لا ينبغي أن تتجاوز مدة صيام اليوم الواحد نهار ذلك اليوم، وأوضحت حالات الصوم للمسافر والمريض وهي التي جاء فيها الترخيص الذي أشرنا إليه، وفيه تخفيف على المسلمين.
ومما ورد في تلك الأحاديث: النهي عن صوم يومي عيد الفطر وعيد الأضحى، وكذلك صوم يوم الجمعة وحده. ثم بينت كيفية قضاء صيام لمن لم يصم - بعذر - وميقات ذلك. ووجوب صيام ولي الميت عنه إذا مات ولم يصم في مرضه، ومما جاء في آداب الصيام ضرورة حفظ اللسان عن قول ما يسيء إلى الناس، بل إن على الصائم ألا يرد على الإساءة بل يرد بقوله: إني صائم.
وللدلالة على مكانة الصيام، فإن مما يجدر بنا ذكره، هذا الحديث الشريف الذي ينص على ما يلي: «قال الله (سبحانه): كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به».
هذا، ومن الأحاديث الشريفة ما دعا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صيام التطوع تقربا بذلك إلى الله عز وجل، فبينت فضله لمن يقدر على الصيام دون أن يصيبه ضرر، أو يفوته أداء حق.
ولا ينتهي «كتاب الصيام» حتى يورد من الأحاديث النبوية ما ينهي عن مواصلة صيام التطوع، وقد وجه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بذلك الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال له ضمن حديث طويل: «فصم وأفطر، وقم ونم، فإن لعينك عليك حقا، وإن لنفسك وأهلك عليك حقا». (وقم: بمعنى: قم الليل للصلاة).
ولم يكن هذا هو كل ما ورد من الأحاديث الخاصة بالصيام وبشهر رمضان على التحديد، ولكننا عرضنا رؤوس المسائل التي وردت ضمنها، بينما كان عددها أربعة وثمانين حديثا.
٭٭٭
وتناولت كتب الفقه الإسلامي موضوع الصيام اعتمادا على ما ورد في كتاب الله عز وجل، وفي الأحاديث التي وصلت إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أجل أن نقدم شيئا موجزا لما ورد عن هذا الشأن في تلك الكتب، فإن من الأفضل لنا أن نقدم هذا الإيجاز الذي جاءت به الأرجوزة التي اعتمدت على كتاب «دليل الطالب في الفقه» ففي أبياتها:
الصوم ركن من بناء الإسلام
وفعله يلزم كل إلزام
منذ قضاه الله وهو ملزم
أداؤه يسأل عنه المسلم
موعده في رمضان إن بدا
هلاله فصومه تأيدا
فيه التراويح تصلى ليلا
وفيه أعلى المكرمات نيلا
ويثبت الشهر برؤية مسلم
مكلف هلاله فلتجزم
وهذا لا يخرج عما ورد في كتب الفقه، إلا أنها تزيد عليه في تفصيل الأحكام بما لا يخرج عما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
ولما كانت هذه الأرجوزة تضم كل ما يتعلق بالصيام، فقد ختمت بما ختم به كتاب الصيام في كتاب «دليل الطالب»، فكان ختاما يحتوي على بيان عن صيام التطوع، وما يكره أن يصوم فيه المسلم من الأيام والشهور. وهذا هو النص:
وسن أن يصوم في التطوع
عدة أيام على التنوع
وآكد الأيام يوم عرفة
ويم عاشوراء معروف الصفه
ويكره الإفراد في شهر رجب
والسبت والجمعة أيضا لسبب
هو اتباع سنة المختار
في كل ما جاء من الأخبار
ويحرم الصوم بلا تفريق
في يومي العيدين والتشريق
٭٭٭
ولو تتبعنا الأحداث التي جرت وقائعها في شهر رمضان منذ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما بعد مرور عدد كبير من السنين بعد وفاته، لوجدنا أمورا كثيرة منها ما ذكرناه آنفا، ومنها ما لم نذكره. وهنا نختار بعضا مما لم يرد عندنا من قبل:
- وفي الشهر نفسه للسنة الثانية للهجرة (624م) شرعت صلاة العيد.
- وفي السنة السالفة الذكر فرضت زكاة الفطر.
- وفي رمضان للسنة الثامنة من الهجرة (630م)، فتحت مكة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك بعدة سنين جرى ما يلي:
- فتح المسلون جزيرة رودس (وهي الآن يونانية) في رمضان سنة 53 للهجرة (574م).
- فتحت الأندلس على يد البطل المسلم طارق بن زياد في رمضان لسنة 92هـ (711م).
- فتحت السند في رمضان لسنة 86هـ، التي تصادف سنة 715م على يد القائد الفذ محمد بن القاسم وكان عمره يوم قام بقيادة الجيش الإسلامي الذي فتح تلك البلاد ثماني عشرة سنة.
- في شهر رمضان لسنة 114هـ (732م) جرت موقعة بلاط الشهداء في فرنسا بقيادة البطل المسلم عبدالرحمن الغافقي.
- في رمضان لسنة 138هـ (756م)، قامت الدولة الإسلامية في الأندلس بقيادة عبدالرحمن الداخل.
كل هذه الأحداث وغيرها كثير قد تمت في الشهر المبارك، وما تقدم لم يكن إلا أمثلة لما جرى، وهو كاف للإجابة عن أن شهر رمضان لم يكن شهر خمول وتكاسل فها نحن نرى أجل الأعمال في تاريخ الإسلام تحدث فيه ولم يمنع المسلمين صيامهم عن القيام بها.
٭٭٭
وفيما يتصل بالاهتمام بشهر رمضان، وصومه، وقيام لياليه النيرات، جانب مهم يكشف عنه الأدب العربي الذي نجده شعرا ونثرا. يبدي الترحيب بقدوم الشهر، والتهنئة به، وذكر الراحة النفسية التي يشعر بها الصائمون وهم يؤدون الواجب الديني الذي فرضه الله تعالى عليهم، فالصيام ركن من أركان الإسلام.
ومن نماذج الأدب الرفيع ما كتبه أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ (1037م) مهنئا لأحد رجال عصره بشهر رمضان:
«ساق الله إليك سعادة إهلاله، وعرفك بركة كماله، لقاك الله فيه ما ترجوه، ورقاك إلى ما تحب في ما تتلوه. جعل الله ما يطول من هذا الصوم مقرونا بأفضل القبول مؤذنا بدرك البغية ونجح المأمول ولا أخلاك من بر مرفوع ودعاء مسموع. قابل الله بالقبول صيامك وبعظيم المثوبة تهجدك وقيامك. أعاد الله إلى مولاي أمثاله وتقبل فيه أعماله وأصلح في الدين والدنيا أحواله وبلغه منها آماله. أسعد الله مولاي بهذا الشهر ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر».
الإقبال ما وعد وابتهجت النفوس وتزينت الطروس واهتزت الأقلام وأعلنت بالسلام:
وعندما يتبادل الأدباء التهاني بقدوم العيد فور انتهاء شهر الصيام، فإننا نجد مثالا لذلك - ما كتبه عبدالله فكري المتوفى سنة 1307هـ (1889م) إلى واحد من أصحابه، وهذا نص ذلك:
«هذا يوم نشر البشر فيه أعلامه وأضاءت الدنيا وازدانت الآفاق ببهجة هذا العيد السعيد وأخذ الأحبة يتهادون رسائل البشائر فيما بينهم وكل حزب فرحون بما لديهم بما أودع فيهم من روابط المحبة وعوامل الاتحاد السارية في النفوس: أما أنا فعيدي وبهجة نفسي وسرور فؤادي دوام إقبال الزمان عليك بوجه النصر وعود أعياد السرور على جنابك الرفيع فمثلك تشرق الدنيا بطلعته وتفرح الأعياد برؤيته:
وأرى الحياة لذيذة بحياته
وأرى الوجود مشرقا بوجوده
لو أنني خيرت من دهري المنى
لاخترت طول بقائه وخلوده
أعاد الله عليك أيها الأخ أمثاله وأمثال أمثاله في صفاء وهناء».
وسار ذكر شهر رمضان وتعظيمه في الشعر العربي في كافة العصور. فهذا شاعر أندلسي احتفل بقدوم الشهر على طريقته فقال:
هذا هلال الصوم من رمضان
بالأفق بان فلا تكن بالواني
وافاك ضيفا فالتزم تعظيمه
واجعل قراه قراءة القرآن
صمه وصنه واغتنم أيامه
واجبر ذما الضعفاء بالإحسان
ومما قاله مصطفى صادق الرافعي:
فديتك زائرا في كل عام
تحيا بالسلامة والسلام
وتقبل كالغمام يفيض حينا
ويبقى بعده أثر الغمام
ونرى من الشعراء من يقدم النصح للصائمين، ومن هؤلاء أمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال في إحدى قصائده:
يا مديم الصوم في الشهر الكريم
صم عن الغيبة يوما والذميم
وقال في قصيدة أخرى:
وصل صلاة من يرجو ويخشى
وقبل الصوم صم عن الفحشا
وفي كلتا القصيدتين كما يبدو من مطلعيهما نصح للصائم، وطلب أن يبتعد عن كل ما يجرح صيامه من قول أو عمل. فهو يقول لهذا الصائم كما تصوم عن الطعام والشراب فاحفظ لسانك عن القول الجارح لغيرك، واحفظ نفسك من أن تغرك فتندفع إلى عمل الفواحش. وهذا هو ما يخالف واجب الصائم حتى يستحق الأجر من الله سبحانه على صيامه.
ومن عيون الشعر قصيدة قالها الشاعر محمود حسن إسماعيل المتوفى في الكويت سنة 1977م عندما استقبل شهر رمضان معتبرا إياه ضيفا عزيزا على نفسه:
أضيف أنت حل على الأنام
وأقسم أن يحيا بالصيام
قطعت الدهر جوابا وفيا
يعود مزاره في كل عام
تخيم لا يحد حماك ركن
فكل الأرض مهد للخيام
ورحت تسن للأجواء شرعا
من الإحسان علوي النظام
بأن الجوع حرمان وزهد
أعز من الشراب أو الطعام
ولا ينسى الشعراء وداع شهر رمضان، فقد فرحوا بقدومه وعبروا عن ذلك. وها هو يفارقهم مغادرا دنياهم إلى حين فآن لهم أن يأسفوا لفراقه، وأن ينشدوا قصائدهم في وداعه آملين أن تكون لهم عودة إليه، وله عودة إليهم.
وهذا شاعر اسمه تميم الفاطمي يقول:
ما تقاضت منا ليالي الزمان
ما تقاضى شوال من رمضان
ما ترى بدره علاه سقام
كسقام المحب في الهجران
كسف نوره مخافة شوال
كسوف الصيام للألوان
والآن وقد تم وداع شهر رمضان، فقد جاء العيد ببهجته وبالسرور الذي يغمر الناس بهلاله بعد أن تمكنوا من أداء الفريضة وكما استقبل الشعراء الشهر الكريم، وودعوه بأشعارهم، فإن من حق العيد أن يأخذ نصيبه من هذا الفن المعبر، ولذا قال الشاعر:
عوائد العيد أفراح وإيناس
وعادة الصدر تهوي شرحه الناس
عيد سعيد كسته سين سالفه
موردات حكاها الورد والآس
هذا هلال بأفق العيد يشرق أم
محرابه رمضان فيه نبراس
ومما يجمع بين الحدث والشعر، ونال قدرا كبيرا من اهتمام المسلمين: غزوة بدر. وهي حرب حدثت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة وكانت من أهم الحوادث في تاريخ الإسلام لأنها كانت الأولى من نوعها، وكانت لها نتائج مهمة أدت إلى إضفاء القوة على المسلمين ونشرت الدين الحنيف في أجزاء أخرى متفرقة من جزيرة العرب، ومما يذكر أن الصيام لم يكن قد فرض في وقتها.
لقد ثبت الله سبحانه المسلمين الذين قادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقابلة عدوهم الذي جاء بجيش كبير لمهاجمتهم وكان أكثر عددا وعدة منهم. ولكنهم انتصروا بعون الله وحده نصرا مبينا، عاد على الدعوة الإسلامية بخير كثير، ورفع اسم الإسلام عاليا في كافة أنحاء جزيرة العرب ما أدى إلى انتشار الإسلام في هذه الجزيرة كما أشرنا آنفا. وقد دخلت إثر هذه النتيجة الباهرة أعداد من الناس إلى الإسلام وصاروا دعما له، فقد شاهدوا ما حدث وسمعوا به، ورأوا أن لهذا النصر دلالة واضحة على أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأن انتصار المسلمين بقيادته معجزة لا شك فيها.
وفي العصور المتأخرة صار المسلمون يحتفون بذكر هذه الغزوة باعتبارها سبيلا أدى إلى انتشار الإسلام وقوته، وبها صار المسلمون قوة لا يستهان بها.
وكنا في الكويت نحتفل بهذه الذكرى الإسلامية المهمة، فتقام عندنا احتفالات خطابية في أماكن متعددة منها ما كان يقوم به معهد الكويت الديني وبعض الأندية. ولعل من أهم ما أذكره مما ألقي من شعر في واحدة من تلك الحفلات التي أقيمت في سنة 1954م قصيدة جاء منها ما يلي:
إن ذكرت الظهر فاذكر رمضانا
أو ذكرت الأسد لا تذكر سوانا
تلك بدر شهدت في يومها
لعداة الله أجالا تدانى
قد طويناهم بكف صارم
وأذقناهم لدى الكر هوانا
ومنها:
رمضان أشهد بأنا سوف لا
نرضى الذل ولا نرخي العنانا
سنري الأعداء وجها مظلما
وسنبرى اليوم للحرب السنانا
رب بدر رجعت ثانية
فنثير النقع فيها والدخانا
وكم كان جميلا أن لو استمرت تلك الاحتفالات التي تحيي ذاكرة المجتمع، وتفتح أعين الناس على صفحات تاريخ دينهم، وما وصلت إليه أمتهم من مجد نتيجة لتلك البدايات التي كانت غزوة بدر واحدة منها.
في الحلقة الثانية
الحديث عن رمضان حين يهل هلاله على الكويت في زمن مضى