- عادات وعبادات وأحداث.. وبشارات
- الكبار والصغار كانوا يعدون العدة لاستقبال رمضان منذ رجب
- القرقيعان لايزال محتفظاً بمكانته.. و«الصفاة» كانت محط الأجواء الرمضانية
- فزعة لبناء سور الكويت.. وموسم الغوص يتوقف في الشهر الفضيل
بقلم د.يعقوب يوسف الغنيم
الحلقة الثانية
حين يهلّ هلال رمضان على الكويت في زمن مضى، كان الكويتيون على أتم الاستعداد لاستقباله وذلك منذ شهر رجب، فبلادنا بصفتها بلدا إسلاميا تترقب هذا الشهر منذ رجب، وتستعد له عند بداية هذا الشهر الذي ما إن يبدأ حتى يلتفت الناس جميعا إلى الاستعداد للشهر الكريم رمضان، والكل يعمل على قدر طاقته، ومن ذلك:
1- إعداد البيت لاستقبال الشهر، ففي وقت الإفطار يجتمع عدد من أفراد الاسرة لا يجتمعون في غيره، ولذا يتم تنظيف المسكن تنظيفا شاملا، ويتم تجديد بعض المفروشات التي مر عليها زمن حتى يكون الموضع لائقا باستقبال من يحضر إلى مائدة الإفطار، وهو عمل من أعمال الاحتفاء بالشهر والفرح بعودته.
2- تحضير المواد الغذائية التي لابد منها للوجبات الرمضانية بقدر كاف لمدة شهر، حيث لا يحتاج رب المنزل للذهاب إلى السوق من أجل الشراء وهو صائم.
3- من أنواع المواد الواجب تحضيرها: الطحين والسكر والأرز والبهارات، أما باقي حاجات الطبخ فيمكن شراؤها من صاحب الدكان القريب من البيت.
4- أهم مأكولات شهر رمضان عند الإفطار الهريس وهو قمح مقشور يطبخ مع اللحم والبهارات الملائمة وعندما ينضج تقوم ربة البيت التي طبخته بضربه بما نسميه المضرابة، وهي قطعة خشبية يصل طولها أحيانا إلى نصف متر، وفي طرفها الذي يوضع في القدر قطعة مسطحة تشبه المغرفة. أما الهريس فهو يعد لهذا الشهر من قبل إهلاله، فالميسورون الذين يستقبلون أعدادا كبيرة على مائدة الإفطار يحتاجون إلى كمية كبيرة منه تعد في وقت مناسب حيث لا يأتي الشهر إلا وقد حصلوا على القدر المطلوب له كاملا، وهؤلاء يبدأون التجهيز منذ بدء شهر رجب، ولكثرة الكمية المطلوب دقها لإزالة القشر من حباتها فإنهم يحضرون بعض المشاركات في الفرق الفنية النسائية لكي يقمن بهذه المهمة فيبدأن في دق الكمية التي تقدم لهن من القمح منذ الصباح وهن يؤدين حركات رتيبة اعتدن عليها مع غناء خاص، أصبح يمثل مع ما يحيط به رقصة وأغنية شعبية ضمن التراث الكويتي المعهود.
ومما كن يقلنه في هذه الأثناء:
الله الله الله
يا كريم يا الله
الله الله الله
يا كريم يا هو
مع الترديد
ومضى شهرا رجب وشعبان، وفي الليلة التي يتوقع فيها الأهالي إهلال رمضان، يكون كل شيء قد أعد لشهر الصيام، وما عليهم إلا انتظار صوت المدفع وهو يعلن لهم رؤية الهلال المنتظر، فيمر بهم هذا المساء وهم يتبادلون التهاني قائلين:
- امبارك عليكم الشهر، ويتلقون الرد
- علينا وعليكم
ثم يلحق الطرفان هذا بدعاء فيه قولهم:
- الحمد لله الذي أعادنا عليه.
وفي اليوم التالي وهو أول يوم من شهر رمضان يخرج الناس من مساكنهم وهم صائمون وفرحون بعودة الشهر الكريم، واستئناف الصوم وصلاة التراويح والقيام مع الاكثار من تلاوة القرآن الكريم، وتمضي الليالي الأولى وهم يتبادلون الزيارات والتهنئة بعودة هذا الشهر المبارك الذي ينتظرون هلاله طوال السنة.
وبعد صلاة العصر من كل يوم يجلسون للاستماع إلى إمام المسجد وهو يقرأ عليهم ما يفقههم في دينهم، وبخاصة ما يتعلق بالشهر المبارك، وقد حفظ لنا كتاب قيم أحاديث شهر كامل من شهور رمضان ألقاها الشيخ عبدالله الخلف الدحيان وعلق عليها الشيخ محمد سليمان الجراح، وكان الشيخ عبدالله من مواليد سنة 1875م، وهذا يدلنا على قدم عادة الجلوس في المساجد لتلقي علوم الدين.
وقد كانت أحاديث الشيخ عبدالله - رحمه الله - تتعلق بداية بالصيام وما يتصل به ثم الصلاة وما يتعلق بها، وينهي الدروس بذكر زكاة الفطر التي يقدمها الصائم في نهاية الشهر الكريم.
وغير هذا، فإن أئمة المساجد يلقون في آخر يومين من أيام الصيام دروسا مختلفة عما تقدم. فهي خاصة بوداع شهر رمضان، وذكر فضائله والدعاء إلى الله عز وجل أن يتقبل صيام المسلمين وقيامهم فيه.
٭٭٭
عرفنا - الآن - عن الكبار وأسلوب استقبالهم لشهر رمضان، واهتمامهم به مع استعدادهم للصيام، ومستلزمات الصيام، لأن أنواع المأكولات في هذا الشهر تختلف عن تلك التي يتم تناولها في غيره من الشهور.
وجاء الآن دور الحديث عن الصغار وما تطرأ على أحوالهم بعد أن يروا أسلوب الحياة وقد تغير من حولهم مند ابتداء الشهر الكريم. وهذا الأمر المتعلق بهم قد سبق أن ذكرته في مقال قديم، وقد وجدت أنه من المستحسن أن أضع هذه النبذة منه للتعبير عن الأمر المقصود، وهي: يتضاعف قيام الصغار بالالعاب على اختلافها في المساء، فتمتلئ بهم الطرق عندما يمارسون ما يريدون ممارسته من أنشطة، ولقد كان من أبرز هذه الأنشطة قيام بعضهم بشراء أنواع معينة من الحلويات هي على التحديد (الغريبة والزلابية واللقيمات) وكلها معروفة في أيامنا هذه، ثم يقومون ببيعها لأمثالهم عندما يأتي المساء، وكانوا ينادون على بضاعتهم قائلين: زلابيه وغريب على الشاي والحليب. وكان الأولاد الآخرون يقبلون على شراء هذه الحلويات، ويستمتعون بمذاقها.
ولا ترى هذه العادة في غير شهر رمضان.
ومن أنشطة الأطفال الرمضانية نشاط قديم يقوم به الأولاد والبنات منفصلين. ومنذ بداية الشهر تستعد الأسواق لهذا النوع من النشاط الذي نسميه ولا نزال كذلك: (القرقيعان). ففي الأسواق تعرض كميات كبيرة من المكسرات والحلويات، فيقوم الأهالي بشراء كميات منها، وتقديمها إلى المجموعات التي تضم الصغار عندما يمرون بالبيوت بعد الإفطار منادين: سلم ولدهم يا الله.... وهذا هو نداء الأولاد، أما البنات فلهن قول آخر هو: قرقيعان وقرقيعان.. إلخ.
هذا هو القرقيعان الذي لا يزال محتفظا بمكانته في نفوس أطفال الكويت، بل ويحظى بعناية الأسر التي تترقب وقته، فتعد لهم العدة بتحضير ما يلزم من المكسرات التي هي (القرقيعان) وذلك من أجل إسعاد الصغار.
وينبغي ألا ننسى ما كان يجري في ساحة الصفاة، ففي هذه الليالي يقام فيها عدد من المقاهي المؤقتة، ويقف هناك بعض باعة المواد الغذائية والحلويات وتعج الساحة كلها بالضجيج الذي تحدثه كثرة الناس، وفي هذا المكان يصحب الآباء أبناءهم لكي يستمتعوا بهذه الأجواء التي لا يرونها إلا خلال هذا الشهر الكريم.
ولا ينبغي أن نذكر هذا الذي تقدم عن الأطفال وننسى منهم أولئك الذين كانوا يرافقون آباءهم في كثير من تحركاتهم خلال ليالي الشهر، ومن ذلك حضور الصلوات، ومنها صلاة القيام التي تقام في الليالي العشر الأواخر من رمضان، ويستمر أداؤها حتى موعد السحور حيث ينفض المسلمون مغادرين إلى منازلهم لتناول سحورهم والإمساك والعودة بعد ذلك إلى المسجد من أجل أداء صلاة الفجر..وأثناء صلاة القيام يجتمع الكبار والصغار، كما تحضر بعض النساء ولهن موقع خاص بهن. والصلاة مكونة من عشر ركعات طويلات يقرأ الإمام فيها القرآن الكريم كاملا، وفي نهاية الليلة العاشرة يكون ختامه، كما يلقي في استراحة بين الركعات العشر موعظة يحث فيها المصلين والمصليات على التمسك بأهداب الدين الحنيف، والحرص على أداء ما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.
وقد كان القيام في هذا الليالي التماسا لليلة القدر وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم كما ورد في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر).
وهذا الذي ذكرناه عن الكويت في شهر رمضان إنما هو موجز لما كان يجري، فإن أسلوب الحياة يتغير عندنا خلال هذا الشهر، فتأتي عادات خاصة به ما أوردنا منها إلا نماذج قليلة.
٭٭٭
ولقد أهلّ علينا شهر رمضان المبارك في هذه السنة على غير ما كنا عليه، فالأمة بأسرها قد اتجهت أنظارها إلى ما يجري في غزة المسلمة، وما يعانيه أهلها من عدوان صهيوني غاشم لا يفرق بين رجل وامرأة وطفلة وطفل.. هدم المستشفيات والمساجد والمدارس، ضربها كلها بالقنابل المرسلة بالطائرات، لم تأخذه شفقة بمريض أو مسن أو طفل، فقد أظهر حقده على الإسلام والمسلمين وهو حقد لايزال معه منذ عهد أسلافه الذين عاصروا صدر الإسلام، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد مرت السنوات الطوال وهذا الحقد ينمو في نفوس بني إسرائيل إلى أن تركز في أمر واحد هو احتلال فلسطين وإخراج أهلها منها، ولكن هيهات فإن رجال هذا الوطن المسلم لم ولن يتركوا حقهم في وطنهم ولن يسمحوا للمحتلين بأن يتمكنوا من تحقيق كامل أطماعهم. وهذا هو ما نشاهده اليوم من رجال غزة، ونحن نستمع ونرى عن بعد كل ما يدور على أرض المعركة حتى صرنا نتابع أحداثها يوما بعد يوم، وقد عرفنا معاناة أبناء هذا الوطن العربي بالوصف الذي مر بنا هنا وعرفنا آثار أفعالهم بعدوهم الذي يأبى الاعتراف بما يعانيه منهم مستندا الى مساعديه من تلك الدول التي كانت تدعمه وتمده بكل ما يحتاج إليه من مال وسلاح، ولعل أهم دليل على فقده للكثير من حربه الإجرامية هذه، فقده من محاربيه عددا كبيرا اضطر إلى ذكرهم بضغط من أهاليهم، وكان عدد القتلى والجرحى مثيرا للعجب، لأن الفارق في السلاح وفي عدد المحاربين يميل إلى صالح العدو أكثر مما يميل إلى صالح أهل غزة.
أما إذا نظرنا إلى الجانب الآخر فإننا نرى الامدادات تنهال على إسرائيل منذ اليوم الأول للحرب، فهي تحظى بالدعم من جميع أنواعه من عدة بلدان أوروبية ومن أميركا، ولعل أهم ما سمعناه هو قرار الكونغرس الأميركي الذي صدر قبل أيام قليلة بتقديم دعم للمعتدين بمقدار كبير من المال، ومقدار آخر من السلاح بكل أنواعه. ولا يخفى أن هذا كله يدل على خسارة الصهاينة الكبيرة ما اضطرهم إلى طلب مثل ذلك، لأن حربهم البشعة قد أرهقتهم، وكلفتهم الأموال الطائلة والأسلحة الكثيرة.
٭٭٭
ملحاق خير
بعدها اكتمل الحديث عن شهر رمضان المبارك، تساءلت: أهذا هو كل شيء عنه؟ وأجبت بأن الأمور التي ينبغي أن يشار إليها بهذا الخصوص كثيرة وأن الإحاطة بها كلها تقتضي مجالا أرحب، ولكنني لم أستطع أن أتجاوز ذكر موضوعين من الموضوعات المتصلة برمضان في الكويت.. وحتى لا أذهب بعيدا، فإنني قد أشرت إليهما في سنة 2016 في مقال تم نشره آنذاك، وهذان الموضوعان هما:
أولا: من الأمور التي كانت مهمة في تاريخ الكويت ما جرى في شهر رمضان لسنة 1338هـ الموافق لسنة 1920م، حين هب المواطنون جميعا إلى المشاركة في بناء سور الكويت الثالث، تلبية لنداء أميرهم في ذلك الوقت الشيخ سالم المبارك الصباح.
كان بناء سور الكويت الثالث أشبه بملحمة شارك فيها الجميع، وبذلوا جل طاقاتهم من اجل إنشائه حماية لوطنهم ودحرا لأعدائهم، وكان إقبال المواطنين على العمل إقبالا لا نظير له، وخاصة انهم ابتدأوا العمل في شهر رمضان، فلم يمنعهم الصوم من القيام بهذا الواجب الوطني المهم الذي عاد على البلاد أمنا وهدوء بال.
وقد أمر الأمير الراحل الشيخ سالم الصباح بتهيئة جميع الظروف لإنجاح هذا العمل من حيث التنظيم ومن حيث التمويل، ولقد كان نظام العمل والتخطيط له من أهم ما ادى إلى حصول الكويت على هذا السور الذي حفظ امنها.
ولدينا شهود على ما بذل من جهد في الاعداد والتنفيذ والتمويل منهم طبيب الارسالية الاميركية ستانلي ميلري والطبيبة بالمستشفى الأمريكي اليانور كالفري فقد شهدا العمل واثنيا على الجهد الذي بذل فيه منذ التخطيط له إلى حين انشائه.
يقول ماليري في مذكراته التي جعل عنوانها «الكويت قبل النفط»:
وكان بناء هذا السور آية في التنظيم، فقد تم تعيين مسؤوليات محددة لرجال المدينة البارزين، وقد عين شخص مسؤول عن الحفر وآخر عن الصلصال وثالث عن المواصلات، وكان الصلصال المادة الرئيسية المستعملة في البناء، وبما ان طول السور كان يبلغ ثلاثة أميال وسمك جداره أقدام وارتفاعه عشرون قدما، فإن كمية الصلصال المطلوبة كانت هائلة.
ثانيا: إذا صادف مجيء شهر رمضان مصاحبا موسم الغوص على اللؤلؤ وكان موسمه ما بين شهري يونيو وأكتوبر وهي مصادفة غير مستبعدة فإنه من المقرر ان تبقى سفن الغوص في البلاد خلال هذا الشهر، حيث يصوم الرجال في الوطن، اذ إن الغوص اثناء الصوم محال لشدته على العاملين في مجاله، وأكثر من هذا فإن موسم الغوص إذا جاء في وسطه شهر رمضان عادت السفن جميعا إلى البلاد من اجل أداء فريضة الصيام.
وقد نشرت في الماضي فتوى شرعية تحرم الغوص في هذا الشهر، ولذا فقد التزم الجميع بالبقاء في البلاد، وقضاء يوم العيد مع اهلهم، وبعده مباشرة يتم استئناف الموسم. أما عيد الاضحى فهو مختلف لانه غير مسبوق بالصوم كما هو معروف، وقد ورد عن هذا العيد إذا مر في الموسم ما يلي:
«إذا كان يوم عيد الاضحى والغواصون في الهير يتأهبون للغوص كما يجري بالعادة كل يوم فانهم يصلون صلاة العيد، ويشربون الشاي والقهوة، والبعض يعمل نوعا من الحلوى مشهورة لديهم اسمها (شنيالي) بكسر الشين، وبعض النواخذة يعملون وجبة غداء ويرتاحون يوم العيد وبعض الغواصين يذهبون إلى أحد البنادر في الساحل قبيل العيد ويعيدون في البر وبعضهم يشتري ذبيحة «خروفا» لذبحها لوجبة الغذاء. وفي اليوم الثاني يغادرون البندر إلى المغاصات وبعض الغواصين يغوصون في يوم العيد وذلك بعد صلاة العيد.
٭٭٭
وبعد، فهذا هو ما أردنا ذكره في هذا الملحاق استكمالا لموضوعنا عن شهر رمضان المبارك، وليس هذا هو آخر ما يقال حول هذا الشهر، فقد كان ولا يزال شهرا يهتم به المسلمون جميعا، مرت خلاله أحداث كثيرة، ما ذكرناه منها ليس إلا على سبيل الأمثلة التي أردنا منها أن نعطى الدليل على الأنشطة المختلفة التي تجري فيه منذ زمن طويل.
وفي نهاية ما جاء هنا عن الشهر الكريم، نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعله شهر خير وبركة، وأن يحفظ وطننا من كل الشرور، ويفتح لنا أبواب رحمته الواسعة.