لاتزال ثقافة الحضور الشكلي لبعض الموظفين تتسيد المشهد العام في العديد من الجهات الحكومية، بل إن بعض المسؤولين يكرسون النمط التقليدي للوظائف العامة وجل اهتمامهم أن تغص مقار عملهم بالموظفين، معتقدين أن ذلك يمثل بحد ذاته نجاحا في ضبط الدوام، دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى.
قبل أيام ألزمت إحدى مؤسسات الدولة موظفيها بالتبصيم 3 مرات بدلا من مرتين، وأعتقد أن لهذا التوجه المستحدث أبعادا اقتصادية واجتماعية لابد من تسليط الضوء عليها، ووضعها في ميزان الدول المتقدمة وكبريات الشركات الرائدة على مستوى العالم.
فتقييم أداء الموظفين يستند في مؤسساتنا الحكومية إلى الكم الحضوري بدلا من الكم الإنتاجي، ورغم أن «المدرسة الحضورية» مازال لها مؤيدون ومناصرون في العالم، إلا أن شركات مرموقة أشاحت بوجهها عن هذا النمط السائد، وانتهجت إستراتيجيات وبرامج لتحقيق إنتاجية أكبر في المؤسسة والاستفادة من كفاءات الموظفين وجودة أدائهم بدلا من تتبع حضورهم وإلزام شخوصهم بالتواجد.
وهذا ما يفترض أن يتسم به المظهر الحكومي العام، فمصالح الدولة وتسيير معاملات المواطنين، وتحقيق أقصى قدر ممكن من الإنتاجية هو الهدف الذي ينبغي التركيز عليه أكثر من غيره، وإلا فما الفائدة من إلزام المئات بالحضور مقابل إنجازات خجولة ومعاملات مكدسة وإنتاجيات متواضعة؟
الولايات المتحدة وبريطانيا وما فيهما من أيقونات «البزنس» العالمية اكتسبت من جائحة «كورونا» تجارب فذة، وأجبرت طائفة منها على استحداث العمل عن بعد كليا، فيما نحت طائفة أخرى إلى ما يصطلح عليه بـ «الدوام الهجين» والذي يلزم الموظف بالحضور لإتمام ما لا يمكن إتمامه عن بعد، وهو ما يتسم بالمرونة وينظر للإنجاز أكثر من الاهتمام بتواجد الموظف.
ومع ذلك، فإن هذه المدرسة الحديثة لم تترك الحبل على الغارب لموظفيها، بل ذهبت لتبني برامج استقصائية لإنتاجية الموظف سواء كان ذلك عن بعد، أو بنظام الدوام الهجين، ثم خلصت تلك البرامج إلى أن التزام الموظفين بالحضور لا يعني بالضرورة تحقيق أهداف المؤسسة أو زيادة إنتاجيتها.
اليوم نعاني في بعض جهاتنا الحكومية من ضعف إنتاجية الموظفين رغم حضورهم والتزامهم بالبصمة، نعم، هناك موظفون متألقون متفوقون، لكن آخرين يقضوا جزءا غير يسير من ساعات دوامهم نوما على المكاتب، أو لتناول وجباتهم أو التحلق مع زملائهم على أحاديث جانبية، وهناك موظفون ليتهم لم يحضروا ولم يبصموا، فوجودهم يؤثر سلبا على زملائهم المنتجين، وينقلون لهم عدوى ثقافة الكسل والنوم على طاولة العمل فضلا عن تعطيل مصالح المواطنين ومعاملاتهم.
وإلى جانب ذلك، فإن المبالغة في استجلاب الموظفين من شأنها استهلاك مقار العمل وزيادة المصروفات التشغيلية، والاختناقات المرورية، وتعزيز الضغوط النفسية الناتجة عن إلزام الجميع بالحضور والانصراف في ساعات معينة، دون النظر إلى الجوانب الحياتية للموظف، مما يسهم في إعدام التوازن بين عمله وحياته الشخصية.
إن النظرة الثاقبة في هذا الجانب تتجه إلى أن الموظف قد يظهر على نظام الدوام الآلي أنه متواجد لـ 8 ساعات مع إنتاجية (صفر)، في حين قد تتجاوز إنتاجيته المعدل المطلوب وهو لم يداوم أكثر من 4 ساعات، فهذا الأخير يمثل قيمة حقيقية للدولة ولجهة العمل.
إن الجهات الناجحة تعتمد على كفاءة الموظف وإنتاجيته من خلال التزامه بأجندة المهام الموكلة إليه بغض النظر عن إثبات حضوره بالتوقيع أو البصمة، وهذا يكتسب المزيد من الجاذبية وإفادة بيئة العمل بإنجاز حقيقي بدلا من إلزام شخوص بالحضور، فالمفترض أن أنظر لأداء الموظف وإنتاجيته، وأن أضع برامج وإستراتيجيات وأن أخلق أساليب وأدوات تسهم في تعزيز الكفاءة وتحقيق الجودة المطلوبة، وأن أقرن الأعمال الممتازة بالإنجاز، وأن أرهنها بالإنتاج، وليس ببصمة الدوام، وهذا ما كنت أنتهجه في وزارة الدفاع حيث كان الموظف المنجز المنتج هو صاحب الأولوية في الأعمال الممتازة، ولو كنت مسؤولا لما غيرت هذا الاتجاه أبدا.
في الختام: ما نحتاجه اليوم هو أن نتخلى عن النظرة السائدة التي تقول: إنه كلما حاصرنا الموظف وألزمناه بالتواجد زادت إنتاجيته، فالواقع والدراسات يؤكدان عكس ذلك، ويظهرا أن الضغط الزائد قد يؤثر على نفسية الموظفين، وبالتالي ضعف إنتاجيتهم، وأن زيادة الإنتاجية أو تراجعها هي أمر يحدده تصور مسؤول الجهة عندما يدير الأمور بعناية واقتدار وحنكة.
كلمة أخيرة: حبذا لو تتبنى دولتنا الكريمة إنشاء مراصد اقتصادية تكشف الخلل في إنتاجية الموظف رغم حضوره الشكلي، وتستفيد من إستراتيجيات الدول المتقدمة في «الدوام الهجين» ورهن تقييم الموظف وأعماله الممتازة بإنتاجيته لا بالمزيد من «البصمات».
[email protected]