لا يشكك أحد حول العالم في أهمية العمل وتأثيره الايجابي اقتصاديا واجتماعيا وأسريا، فتعد الوظائف أكثر من مجرد رقم يحسب للاستدلال على قوة ومتانة اقتصاد ما، فخلف كل وظيفة حكاية لإنسان يبذل قصارى جهده لإعالة أسرته وضمان لقمة العيش لها، فيسعى ليلا ونهارا من أجل عائلته لجلب الطعام ودفع تكاليف الدراسة والادخار للمستقبل، كما أن الوظيفة تسهم في إبراز قدرات الإنسان وتكوين المجتمعات وتعزيز الانسجام الاجتماعي، كما يصف البعض، فإن العمل هو كرامة المرء.
وفي هذا الضوء، لا بد من التنويه بأن لصناعة النفط والغاز دورا مهما في توفير فرص عمل حول العالم حيث يعمل العديد من ذوي الكفاءات العالية والمهارات المتخصصة في هذا القطاع. والجدير بالذكر، أن تأثير هذه الصناعة من هذا المنطلق يتعدى ما يمكن تخيله، حيث تولد هذه الصناعة العديد من فرص العمل في القطاعين العام والخاص، مثل التصنيع والنقل والفنادق والمحلات التجارية، ما يؤثر بشكل إيجابي على الاقتصاد الاقليمي والوطني. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الصناعة النفطية توفر حاليا 70 مليون وظيفة تقريبا في مختلف أنحاء العالم.
وعند النظر بتمعن في تاريخ هذه الصناعة الحيوية نرى أن تأثيرها الإيجابي على المجتمعات ملموس، فبالإضافة إلى كون هذه الصناعة المهمة مصدرا مهما لفرص العمل في العديد من المدن والمناطق حول العالم، فقد نشأت بسبب هذه الصناعة مدن تعرف بـ«المدن النفطية» تحتضن، على سبيل المثال، منصات حفر ومصافي وجامعات متخصصة تهدف إلى تخريج متخصصين نفطيين بمستوى عال من الكفاءة، ومن أبرزها على سبيل المثال لا الحصر مدينة الأحمدي في دولة الكويت ومدينة الظهران في المملكة العربية السعودية وميناء هاركورت في نيجيريا ومدينة مدلاند في تكساس ومدينة أبردين في أسكتلندا والبرتا في كندا والبصرة في العراق والكثير من المدن النفطية حول مختلف انحاء العالم.
لذا، من المثير للقلق أن نسمع بأن الصناعة النفطية تواجه أزمة في إيجاد الكفاءات التي تحتاج اليها من أجل استمراريتها، إضافة إلى أن هناك ضغطا على الشباب للابتعاد عن هذا القطاع وأصبحت هناك صعوبات في توفير هذا التخصص في بعض الجامعات، فلهذه الأزمة أبعاد خطيرة قد تؤدي إلى نقص حاد في عدد العاملين في هذا القطاع الحيوي مستقبلا.
وعند تحليل هذه التطورات بموضوعية، نرى أن هناك عوامل عدة قد ساهمت في رسم هذا التوجه الخطير الذي قد يؤدي إلى عواقب سلبية، ومنها الاعتقاد الخاطئ بأن الصناعة النفطية ستزول قريبا وهذا الاعتقاد مبني على فرضية مغلوطة مفادها أن النفط لن يكون جزءا من مستقبل الطاقة عالميا. وقد تفاقم هذا الأمر بعد أن قامت بعض الأطراف في قطاع الطاقة بنشر سيناريوهات وهمية غير مبنية على حقائق علمية لمستقبل الطاقة وما تتضمنه هذه السيناريوهات من فقدان للوظائف وتسريح للعمال.
فمثلا، قامت وكالة الطاقة الدولية بتحديث تقريرها «خارطة الطريق إلى الحياد الصفري» في عام 2023م، حيث توقعت فيه بأن العالم سيفقد نحو 13 مليون وظيفة مرتبطة بالصناعة النفطية في الفترة بين 2022 و2030م ـ أي في غضون 8 سنوات ـ وهذا يعني أن العالم سيخسر نحو 1.6 مليون وظيفة سنويا. وبني هذا السيناريو معتمدا على صناعات طاقة أخرى مفترضا أنها ستخلق العديد من فرص العمل الجديدة متناسيا التحديات التي تواجه هذه الصناعات والتي لا حصر لها.
كما أشارت وكالة الطاقة الدولية في أحدث تقاريرها حول الوظائف في قطاع الطاقة العالمي إلى صعوبة انتقال بعض الكفاءات إلى صناعات الطاقة الأخرى حيث سيعاني بعض العاملين فيها من ضرورة تغير موقعهم الجغرافي من أجل العمل، وسيحتاج البعض إلى كسب مهارات أخرى تتناسب مع طبيعة الوظيفة الجديدة.
كما نوه التقرير إلى الصعوبات التي قد يراها العاملون من كبار السن في تغير القطاع الذي يعملون فيه أو طبيعة أعمالهم، إضافة إلى العنصر المادي حيث يعد قطاع النفط والغاز من أعلى القطاعات أجرا مقارنة بالعديد من المجالات الأخرى. فقطاع النفط والغاز يتميز بالموظفين ذوي الكفاءات العالية والبدلات مثل بدل التنقل وبدل المخاطر التي قد يواجهها العمال أثناء تأدية واجباتهم.
فلوكالة الطاقة الدولية مؤشرات ورسائل متضاربة في هذا الصدد، فقبل عام تقريبا من إطلاق الوكالة للنسخة الأولى من سيناريو الحياد الصفري فيما يخص بالانبعاثات في عام 2021م، عبر مديرها التنفيذي في مقابلة مع وكالة أنباء الأناضول عن قلقه، حيث إن هناك ملايين من البشر يعملون في الصناعة النفطية والقطاعات المرتبطة بها، وأكد أن النفط والغاز الطبيعي يعدان ركيزتين قويتين للاقتصاد العالمي. وأشار الى أن انهيار هذه الصناعة ستؤثر سلبا على الاقتصاد العالمي. واستكمالا لهذا التقلب، أشارت الوكالة مؤخرا أن فرص العمل في قطاع النفط والغاز تشهد انخفاضا بمعدل أكثر من 2.5 مليون وظيفة في الفترة الممتدة حتى عام 2030م.
وهنا أود أن أشدد على أن فقدان الوظائف أو إغلاق بعض القطاعات المتعلقة بالصناعة النفطية لن تؤثر فقط على الاقتصاد، بل سيكون لها تأثير جلي على المجتمع وتماسكه، ويوجد في التاريخ البشري العديد من الأمثلة لما عانته بعض الأمم التي واجهت تحديات جمة نتيجة لوقف نشاطات أحد القطاعات الحيوية فيها وما نجم عن ذلك من مصاعب.
رسالة منظمة الدول المصدرة للبترول (أوپيك) في هذا الصدد واضحة! فالعالم سيحتاج إلى المزيد من الكفاءات في الصناعة النفطية نظرا للنمو المتوقع على الطلب العالمي للنفط الذي سيصل إلى نحو 116 مليون برميل يوميا بحلول عام 2045م، بحسب دراسات المنظمة. ولضمان استمرارية الإمدادات وتطوير التقنيات المطلوبة لخفض الانبعاثات، سيحتاج القطاع بلا شك إلى المزيد من الكفاءات. لذا، بمناسبة عيد العمال العالمي، أود أن أتقدم نيابة عن منظمة أوپيك، بالشكر الجزيل إلى جميع العاملين في صناعة النفط في الدول الأعضاء بمنظمة أوپيك وصناعة النفط عالميا لمساهماتهم المهمة في إمداد العالم أجمع بما يحتاج اليه من النفط ومشتقاته.