منذ صدر الإسلام وبزوغ فجره الذي أنار الأرض، كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرارة الأولى لانطلاقة الدعوة للعالمين، ثم بدأت المساجد والجوامع تنتشر في أصقاع الدنيا كالنار في الهشيم، تحاكي وعد الله بإظهار دينه وإبلاغ رسالته للأمم كافة، فأشهرت المساجد وبنيت الجوامع وأنشئت المصليات والزوايا، وارتفعت المنارات وظهرت القبب وتفنن المسلمون عبر العهود والعصور بإبراز عظمة هذا الدين من خلال التصاميم الرائعة والنماذج المتنوعة التي تأسر القلوب وتخطف الألباب.
ما نراه من التنوع اللامتناهي في بيوت الله المنتشرة في دول العالم يؤكد أن طراز المساجد وعمارتها كان ومازال آخذا في تغير هندسته وعمارته، وتطور تصاميمه ونقشته، متأثرا بالبيئة التي بني فيها، فقد ابتدأ المسجد بالطراز العربي البسيط، ثم أبدعت فيه العمارة الإسلامية الأموية الدمشقية، التي رصعت جدران المسجد بالنقوش البارزة، وزينته بالأعمدة الشاهقة، ثم تلونت المساجد بالفن الأندلسي والمغربي، وبعد ذلك شهدت المساجد طفرات إبداعية، سلجوقية وعثمانية، ثم مصرية وهندية.
وفي بعض الدول التي نحط رحالنا فيها نرى العجائب والغرائب في المساجد وطوابعها المعمارية وقببها المهيبة ومناراتها المتعالية، ونوافذها الملونة وفتحاتها الذكية التي استغلت مسارات الشمس كمنارات للإضاءة، واتخذت من اتجاهات الرياح فرجات للتهوية، ثم زينت الفسيفساء الرائعة جدرانها، والقناديل ومصابيح الإضاءة أعمدتها، وكل ذلك يشعرك بعظمة دين الله، وبفخر علوم الهندسة والتصميم والذوق الرفيع والعلوم الكونية التي بلغها المسلمون، ولعل من محاسن هذا الدين مرونته في أسلوب عمارة المساجد، فلم يفرض تصاميم معينة لبنائها، وإنما وضع معايير واضحة تحدد الهوية الجوهرية للمسجد وتراعي الطهارة واتجاه القبلة وتمنع كل ما ينقض الدين أو يمس التوحيد.
اليوم تقوم بعض جهات الدولة - مشكورة - وعلى رأسها وزارة الأوقاف ببناء المساجد في الضواحي السكنية الجديدة، وفي مقابل ذلك هناك طابور كبير يصطف فيه عشرات المتبرعين ينتظرون فرصة لبناء بيت من بيوت الله بحثا عن الأجر العظيم والثواب الجزيل المأمول من هذه الصدقة الجارية، وما نعتقده أن إسناد بناء المساجد في المدن السكنية الجديدة للمتبرعين الراغبين سيكون أمرا ذا جدوى من عدة زوايا، الأولى توفير تكلفة بناء المساجد من ميزانية الدولة، وتمكين المواطنين من تنفيذ تبرعاتهم، والأمر الثالث والمهم، فتح باب المنافسة للتنوع في بناء المساجد بعيدا عن تراتبية التصميم التقليدي.
أعتقد أن الأوان قد آن لفتح باب المنافسة في تصميم المساجد الجديدة، وابتكار المزيد من الأفكار، على أن يكون ذلك تحت إشراف الإخوة المعنيين في وزارة الأوقاف كجهة شرعية ومسؤولة عن هذه الصروح، وبذلك قد نرى تصاميم مبتكرة من بناء الجوامع والمساجد تنفذ باحترافية هندسية، وتصمم بنماذج إسلامية جاذبة وأساليب عمارة متنوعة، وتشطب بذوق ولمسات رائعة.
إن أمرا كهذا سيكون له الأثر الطيب عند من يزور بلادنا وينظر لثقافتنا، فتتكرس فيهم أناقة دور العبادة عند المسلمين ورقيها، والذوق الرفيع لحضارة هذا الدين، فمن جماليات بناء المساجد أن تولى المساحات الخارجية اهتماما كبيرا لأنها تمثل تصورا أوليا لبيوت الله، ومن ملامح الترشيد وعدم الإسراف في ديننا أن يتم استخدام أنظمة التدوير وتجميع مياه الوضوء لاستغلالها في سقي أشجار المسجد وأزهاره ونباتات الزينة التي تصطف على جوانبه وفي فنائه وحديقته، وتخفف من حرارة الجو وتوفر منظرا رائعا وجاذبا لرواده.
ومن الجدير بمكان أن نحافظ على نعمة الماء بوضع حنفيات ذكية في المواضئ، وأن تكون للمسجد منطقة داخلية تفتح خلال صلوات الجمع والتراويح، ومنطقة صغيرة للصلوات الخمس، فنوفر الطاقة والإضاءة والتكييف في مساحة كبيرة من المسجد، أو أن نعتمد في الإضاءة على الطاقة الشمسية والنظيفة.
وفي الختام: جزى الله خيرا كل من ساهم في بناء مسجد أو مساجد، وأخص من راعى في بنائها تنفيذ تصاميم هندسية رائعة، وملامح خارجية رائعة وتشطيبات داخلية جاذبة، بأناقتها ورقيها وذوقها، بعيدا عن الأنماط التقليدية، وفي الوقت نفسه وفرت جرعات كبيرة من الصفاء والهدوء والسكينة التي تأسر قلوب عمار بيوت الله من المصلين، متوائمة مع مقاصد الشريعة الإسلامية في ترشيد الإنفاق والاستهلاك في الماء والكهرباء والإضاءة والتبريد.
[email protected]