انقطاع الكهرباء وفكرة «القطع المبرمج» للتيار أصبحا حديث الساعة الذي انتشر في الآفاق حتى أصبح «ترند» يحصد التعليقات والتحليلات المليئة بالاستياء والتذمر أحيانا، وبالبطر وجحود النعمة أحيانا أخرى، ورغم وجود صوت للحكمة بين ردود الأفعال إلا أن المساحة الأكبر كانت للمتفلسفين الذين لم ينظروا لمسألة انقطاع الكهرباء إلا من أضيق زواياها، فظهروا في وسائل التواصل الاجتماعي غاضبين ومحرضين، وساخرين ومستهزئين، وقد اختزلوا المسألة في انطفاء نور وغسالة، ومكيف وثلاجة في دولة لا ينبغي لها ذلك - حسب اعتقادهم.
أعتقد أن الفقر الثقافي وقلة الاستقراء لما يحدث في عالمنا دفع البعض لتصوير ما حدث بأنه ظاهرة غريبة عجيبة، ولو علم «الغاضبون» من انقطاع التيار أن أغلب الدول المتقدمة التي تتمتع بأعظم البنى التحتية الكهربائية تعاني هي نفسها من انقطاعات التيار، لتغيرت نظرتهم للمسألة، ففي أميركا انقطعت ومازالت تنقطع الكهرباء لعوامل عدة كحدوث عواصف وأعاصير أو بسبب مشاكل فنية وأعمال صيانة، وأحيانا لنقص إمدادات الطاقة، وفي 2021 أصابت ولاية تكساس الثرية عاصفة أعدمت فيها النور والكهرباء أياما عن ملايين المنازل، وفي 2022 استضافت كاليفورنيا موجة حر شديدة دعت الحكومة لتقنين الكهرباء ولم يظهر حينها أحد يمتعض من قرار التقنين باعتبار أنه يعيش في أعظم امبراطورية تحكم العالم في هذا القرن.
ولم تسلم دول أوروبا المتقدمة مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا من تحديات في مجال أمن الطاقة، خصوصا بعد نقص إمدادات الغاز الطبيعي، فحذرت الحكومات من زيادة الأحمال خلال فترات الذروة بسبب موجات الحر والبرد الشديدين، هذا ما حدث عندهم، أما أن تنقطع الكهرباء في الكويت وهي البقعة الأكثر حرارة على وجه الأرض، فإن الدنيا تقوم ولا تقعد!
لا يخفى على أحد أن ثمة أسبابا وجيهة لانقطاع التيار الذي نتنعم به، على رأس ذلك ثقافة الهدر والإهمال، ففي ظل وفرتها واستمراريتها أصبحت الكهرباء التي نعيشها نعمة مألوفة غفلنا عن قيمتها، ولم نشعر بها إلا مؤخرا، وما حدث يفترض أن يكون بمنزلة رسالة لنا ونداء لتعزيز ثقافة الترشيد والوعي في استهلاك ما يفوق قدرة الشبكات، واجتثاث ثقافة الإهمال المنتشرة بين الأفراد وضمن كثير من المباني الحكومية والشركات والمؤسسات وجمعيات النفع العام، وإطفاء ما لا نحتاجه، بل لابد من تطبيق أنظمة إدارة الطاقة واستخدام تقنيات موفرة، فكل منا مسؤول في هذا الجانب، كما أن الانقطاعات تذكرنا بقدرة الإنسان على التكيف والتأقلم، والصبر والتحمل، والتعاون والتكافل في ظل أقسى الظروف.
في الختام: يذكر أحد مواطني الدول التي نكبتها الحروب وأرهقت بناها التحتيــة أن الكهرباء تنقطع عنهم 22 ساعة مقابل ساعتين فقط فيشعرون خلالها وكأن الدنيا أضـــاءت لهم مستمتعين بمراوح الهواء وشواحن الهواتف ومتلذذين بكل لحظة من هاتين الساعتين.
وإنا إذ نسأل الله أن يفرج عنهم وعن جميع المسلمين، فإنا ندعوه سبحانه أن يعرفنا نعمه بدوامها لا بزوالها، وألا يغير علينا إلا لما هو خير وأحسن، وإني أتذكر في هذا المقام وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة أحسني جوار نعم الله فإنها قل ما نفرت من أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم».
كلمة أخيرة: عملية الإصلاح في الدول تحتاج إلى صبر وحلم و«طولة بال»، التغيير لا يأتي بين ليلة وضحاها، وبدلا من أن نلوم في هذه المرحلة وزيرا أو مسؤولا حاليا أو سابقا، فلنكن إيجابيين ولندعم جهود الإصلاح التي يقودها صاحب السمو الأمير، حفظه الله، وأعتقد أن أي مصلح من وزير ومسؤول إنما هو ثروة وطنية يجب أن نشجعها ونقدرها لا أن نقذفها بالملامة والعتاب والاتهامات المرسلة.
والله الموفق.
[email protected]