كان المترجمون في القرن الأول من الخلافة العباسية ينقلون من الإغريقية إلى السريانية ومن السريانية للعربية، ولقد اجتهد المترجمون في ذلك الوقت رغم مقدرتهم على اللغة العربية، وقد قضوا زمنا طويلا يقدر بقرنين من الزمن في كفاحهم بهذا النقل حيث نقلوا عن الفارسية واليونانية والسريانية والعبرانية، وقد اتصف معظمهم بالمقدرة الفائقة والدقة والأمانة، استطاعوا أن يسهموا إسهاما كبيرا في تكوين المصطلحات الفلسفية والعلمية، ولايزال المترجمون الحاليون في عصرنا هذا يستعينون بهذه المصطلحات القديمة.
وإذا كانت بداية عهد المسلمين بالترجمة في القرن الأول الهجري بنقل كتب الكيمياء إلى اللغة العربية، فقد نشطت التراجم باللغة العربية في القرن الثاني للهجرة الثامن للميلاد، ولقد كان العصر الذهبي للترجمة في عصر المأمون (733م - 113هـ) ويعتبر عصر المأمون هو عصر النور والمعرفة، بل أرقى العصور في النهضة العلمية في تاريخ الإسلام. وقد شجع المأمون على البحث والترجمة، إذ اختار حاشيته من العلماء وأصحاب الفكر، لذلك ارتقى بملكه وعلا صيته بين الملوك والأمراء والدول، ولقد كان أهم ما في هذا العصر هو «بيت الحكمة» الذي يعتبر إحدى مآثر الخليفة هارون الرشيد، ولقد جلب الرشيد العديد من الكتب من بلاد الروم واحتفظ بالكتب عند فتحه عمورية وأنقرة وغيرهما، واستعان بالعديد من المترجمين والعلماء لإبداء آرائهم فيما تحويه هذه المكتبات من نفائس الكتب وخاصة الطب والفلسفة والرياضيات والفلك، وقد عين يوحنا بن ماسوية رئيسا لبيت الحكمة الذي يعتبر أعظم وأكبر جامعة وأكاديمية للعلوم والفلسفة والآداب بعد مدرسة الإسكندرية الشهيرة.
ولقد وصل صيت بيت الحكمة إلى أقصى مداه من النشاط والتقدم والرقي، ولقد جلب المأمون أثمن الكتب من عدة دول أهمها قبرص وروما والقسطنطينية وأصفهان، كما وصلت أيضا عدة كتب لبيت الحكمة من كل من اليونان والهند وفارس، وكان بيت الحكمة خلية نحل من الموظفين، حيث هناك أهم أجنحة خاصة أعدت للمترجمين وللناسخين والوراقين والمجلدين والمساعدين.
فهو مزيج من العلاقات الإنسانية والاجتماعية إضافة إلى اعتباره بوتقة لانصهار الحضارات الأخرى ليزيد هذا التفاعل قوة وتماسكا للحضارة الإسلامية فتترابط مع الحضارات العالمية، وبهذا ترسخت حضارتنا الإسلامية وأصبحت وحدة واحدة متكاملة، وستظل هذه الحضارة الإنسانية مهد الحضارات إلى الأبد.. وقد قال تعالى في كتابه العزيز (كنتم خير أمة أُخرجت للناس).