كنت أقرأ في كتاب «حكايات طبيب» مجموعة قصصية للدكتور نجيب الكيلاني رحمه الله، فذكر قصة عن دكتور بالأدلة الجنائية، تم استدعاؤه ليكتب تقريرا عن أسباب وتداعيات وفاة بنت بإحدى القرى المصرية، وكان والد وأهل المتوفاة يطلبون منه الاستعجال بكتابة أن الوفاة طبيعية، وأنه لا داعي للكشف عليها، حيث انها ماتت غرقا بالنيل بشكل طبيعي، فلما أصر على أن يذهب بنفسه ويعاين الجثة، كشف عليها ووجد أنها حامل وأن هناك آثار خنق حول رقبتها، يقول التفت وإذ بأهلها متجمهرون حولي وبيدهم السلاح ويطلبون منه أن يكتب بأن الوفاة طبيعية، فأصبحت بين أمرين إما أن أنجو بنفسي وأكتب ما يطلبون مني وإما أن أكتب التقرير الصحيح وقد أقتل كما قتلت الفتاة المسكينة، لن أطيل عليكم اختار أن ينجو بنفسه، وبعد أن رحل عن القرية أبلغ عن الحادث الأليم، وقدم الأدلة وترك العدالة تأخذ مجراها معهم.
دكتور في احدى الجامعات الخاصة كان حازما مع طلبته وصارما في تنفيذ القوانين وتطبيق اللوائح.. شاهد طالبا يغش وينقل الإجابات من زملائه أثناء الاختبار فكتب فيه محضرا وبلغ عنه، وبدل أن يكافأ الدكتور على اخلاصه بالعمل تخلص منه وفصل من وظيفته، وأصبح بلا وظيفة.
خلاف بين شخصين يستمر لفترة، فيدخل شخص بينهم بالمنتصف رغبة منه في الإصلاح ولرأب الصدع، فتكبر المشكلة ويصبح هو الخصم، وبعد مدة من الزمن يتصالح الطرفان الرئيسيان، لكن من رغب بالاصلاح يصبح منبوذا.
لا تخض حربا ليست لك، فالأول كاد أن يقتل لكنه تصرف بحنكة فنجا، والثاني فصل من وظيفته بسبب أمانته فحرم الراتب، والثالث تحول لخصم بسبب رغبته في الإصلاح فأصبح منبوذا.
نعم أحيانا من الحكمة الحفاظ على روحك بوسط مجتمع متحجر يقدم العادات والتقاليد على الدين والعدالة، مجتمع لا يرغب في تغيير ما ورثه عن آبائه وأجداده، فلماذا تذهب نفسك وروحك عليهم حسرات.
والثاني هو أحوج ما يكون لهذه الوظيفة التي فصل منها بسبب نظام تعليمي سيئ، يقدم التحصيل المالي على التحصيل العلمي، ينظر للطالب على أنه ثروة يجب استغلالها وعدم التفريط فيها، لذلك قدمت الجامعة على فصل الدكتور المخلص في عمله والذي أراد الإصلاح في زمن كثر فيه الفاسدون.
أما الثالث فهو الرغبة في إصلاح ذات البين.. ولكن ليست كل الخلافات يصلح التدخل فيها، فقد يولد التدخل مشاكل أكبر وقد تتحول محاولة الإصلاح لإفساد، والعاقل يبعد نفسه عن الخوض في مثل هذه الخلافات، حتى لا يكون هو طرفا فيها، خصوصا إذا لم يطلب منه ذلك.
الجبهات كثيرة، والحروب عديدة، والمعارك التي تخصك أكثر، اشغل نفسك بحروبك ومعاركك، وحاول أن تصلح ذاتك وتطور من نفسك، وعليك بالسلامة، فالسلامة لا يعدلها شيء.
أنا لا أدعو للسلبية بما كتبت، فالمجتمع بحاجة لأمثلة راقية واعية تهتم بغيرها قبل نفسها بالتأكيد، ولكن ما أردت إيصاله أن يكون هناك وعي وحساب للمصالح والمفاسد المترتبة على ما تقوم به، ومحاولة الاصلاح بطريقة فيها من الحكمة والحنكة ما يعود بالنفع عليك بالمقام الأول وبالإصلاح والفائدة على الآخر والمجتمع بالمقام الثاني.
[email protected]