كنت قد اقتنيت نسخة قديمة من كتاب ابن أبي أصيبعة «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» الذي ألفه في تراجم الأطباء الأوائل حتى عصره، وقد قرأت منه محاورة رائعة أوردها ابن ابي أصيبعة في كتابه، والتي حوت نكاتا عديدة وفوائد كثيرة، وجمعت هذه المحاورة الطبيب الحارث بن كلدة الثقفي مع «كسرى أنو شروان» وقد كان للطبيب الثقفي في عصره شهرة واسعة ومعرفة كافية فيما يتعلق بالطب والمداواة وهي كالتالي:
وفد الطبيب الثقفي على «كسرى أنو شروان» وبعد أن أذن له بالدخول وقف بين يديه منتصبا قال له: من أنت؟ قال: أنا الحارث بن كلدة الثقفي، قال فما صناعتك؟ قال: الطب، قال: أعربي أنت؟ قال: نعم من صميمها وبحبوحة دارها، قال: فما تصنع العرب بطبيب مع جهلها وضعف عقولها وسوء أغذيتها؟ قال: أيها الملك إذا كانت هذه صفتها كانت أحوج إلى من يصلح جهلها ويقيم عوجها ويسوس أبدانها ويعدل أمشاجها فإن العاقل يعرف ذلك من نفسه ويميز موضع دائه ويحتزر عن الأدواء كلها بحسن سياسته لنفسه.
قال كسرى: فكيف تعرف ما تورده عليها ولو عرفت الحلم لم تنسب إلى الجهل؟ قال: الطفل يناغي فيداوى والحية ترقى فتحاوى، ثم قال: أيها الملك إن الله جل اسمه قسم العقول بين العباد كما قسم الأرزاق وأخذ القوم نصيبهم، ففيهم ما في الناس من جاهل وعالم وعاجز وحازم.
فاستوى كسرى جالسا، وقال لجلسائه إني وجدته راجحا ولقومه مادحا وبفضيلتهم ناطقا وبما يورده من لفظه صادقا وكذا العاقل من أحكمته التجارب، ثم أذن له بالجلوس، وسأله عدة مسائل في الطب وغيرها وكان يجيبها الطبيب كلها.
قال كسرى: فما الداء؟ قال: إدخال الطعام على الطعام هو الذي يفني البرية ويهلك السباع في جوف البرية، قال: أصبت وقال: فما الجمرة التي تصطلم منها الأدواء؟ قال: هي التخمة وإن بقيت في الجوف قتلت وإن تحللت أسقمت، قال: صدقت وقال: فما تقول في الحجامة؟ قال: في نقصان الهلال في يوم صحو لا غيم فيه والنفس طيبة والعروق ساكنة لسرور يفاجئك وهم يباعدك، قال: فما تقول في دخول الحمام؟ قال: لا تدخله شبعانا ولا تقم بالليل عريانا ولا تقعد على الطعام غضبانا وارفق بنفسك يكن أرخى لبالك وقلل من طعامك، فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت وإن تركتها خربت، قال: فما تقول في الفواكه؟ قال: كلها في إقبالها وحين أوانها واتركها إذا أدبرت وولت وانقضى زمانها، وأفضل الفواكه الرمان والأترج، وأفضل الرياحين الورد والبنفسج، وأفضل البقول الهندباء والخس، قال: فما تقول في شرب الماء؟ قال: هو حياة البدن وبه قوامه ينفع ما شرب منه بقدر وشربه بعد النوم ضرر أفضله أمرؤه وأرقه أصفاه.
قال كسرى: لله درك من عربي، لقد أعطيت علما وخصصت فطنة وفهما، فأحسن كسرى صلته وأمر بتدوين ما نطق به.