كان الثلث الأول من شهر رمضان الفضيل يوشك على الانتهاء، وقد بدأت الدراسة منذ أيام قليلة في عامي الدراسي السادس ومر اليوم كبقية أيام الدراسة في الصف السادس الابتدائي لينتهي اليوم حوالي الواحدة ظهراً وأعود للمنزل، وما هي إلا ساعة وبضع دقائق حتى تغيرت أجواء المنزل.. والشارع.. والحيّ.. ومصر كلها مع البيان رقم واحد.. يوم السبت 6 أكتوبر عام 1973، أي قبل 51 عاماً بالتمام والكمال، يوم عمت فيه الفرحة مصر كلها من أقصاها لأقصاها، وخرج المصريون فرحين يتساءلون: هل حقاً بدأت معركة الثأر من العدو؟
وهل نجح الجيش المصري في عبور قناة السويس المانع المائي الرهيب؟ وهل حطم البواسل من أبنائنا خط بارليف المنيع؟ ودمروا نقاطه الحصينة؟
ووضعوا أقدامهم الطاهرة على حبات رمل سيناء الحبيبة؟.. هل حدث كل ذلك فعلاً؟
وهل صدقاً ما نراه على شاشات التليفزيون؟ وهل حقاً ما نسمعه من إذاعات مصر والعالم؟
أم هو «كابوس» جديد سيلحق بشقيقيه «نكبة 48» و«نكسة 67».. كما كنا نطلق على هزيمتينا المدويتين؟
.. ومع دموع جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني وقتها، واستغاثة موشي ديان وزير دفاعها، تأكد للمصريين والعرب أن نصراً مصرياً وعربياً قد وقع، وأن أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر قد تبددت تحت وابل من طلقات وصواريخ خير أجناد الأرض جيش مصر العظيم وأشقائه من أغلب الدول العربية، التي كشفت الأيام بعد ذلك أنهم، ملوكاً وأمراء وقادة وشعوباً، وقفوا إلى جانب الشقيقة مصر، داعمين بالدم والمقاتلين والسلاح والمال والعتاد والمواقف السياسية والاقتصادية الحازمة والحاسمة، التي لولاها ما اكتمل النصر ولا استردت الكرامة المهدرة.
أستذكر تداعيات تلك المرحلة من تاريخ مصر والمنطقة العربية مستدعياً حقيقة «روح أكتوبر» التي بثها النصر في نفوس المصريين، واستشرت في قلوب كل العرب من الخليج الى المحيط، تلك «الروح» المقاتلة.. المتماسكة التي وحّدت الأمة، ونفضت عنها غبار الهزيمة، ومنحتها لمعة النصر ونشوة التفاؤل وعدم الاستسلام.
وأستفيق من رحلة الـ 51 عاماً لأنظر حولي إلى ما آلت إليه أحوالنا اليوم.. وما يلحق بأشقائنا في فلسطين وسورية ولبنان والسودان وليبيا واليمن والعراق، وما يحيط ببقية عالمنا العربي من مخاطر وجودية.
وأتساءل: أين ذهبت «روح أكتوبر».. وكيف نستعيدها بما تحمله من إخاء.. وتآزر.. ووعي.. وإيثار.. وإرادة.. وعزيمة.. وإصرار.. وثقة.. ونعيد بث كل ذلك في نفس وروح وقلب كل إنسان عربي؟
ولله الأمر من قبل ومن بعد..
وحفظ الله مصر وأهلها وكل بلاد العرب والمسلمين والعالم أجمع من شرور الحروب وغدر البشر.