نسمع عن «أزمة منتصف العمر»، حينما يدخل الإنسان مرحلة عمرية جديدة قبل الشيخوخة وبعد ريعان الشباب، فلا هو بالشاب الصغير، ولا هو بالشيخ الكبير، أزمة منتصف العمر تسببت بالكثير من الكوارث والانزلاقات على الجنسين، وقل من ينجو منها من الطرفين، فالرغبات كبيرة ولكن متعجلة، والأمنيات عظيمة، ولكن بالغالب مستعصية.
وحديثي سيكون في مجال آخر، وعن موضوع مختلف، هل سمعت يوما عن أزمة «منتصف الكتب»، دعني أخبرك عن هذه الأزمة التي يعاني منها القراء النهمون.
هل تعلم أن هناك كتابا جديدا ينشر كل 8 ثوان، بما معناه أن هناك 11000 كتاب تنشر يوميا.. عدد مهول من الكتب العالمية والعربية يبصر النور كل يوم.
وأرفف المكتبات ضاقت بالكتب، وصاحب المكتبة ضاق ذرعا بدور النشر، والموزعون ضاقوا ذرعا بالمطابع، والمطابع ضاقت ذرعا بأصحاب الطلبات الجديدة.
وكلما أردت الرجوع لأزمة «منتصف القراءة»، جرني الحديث لموضوع جانبي آخر، لكن للقارئ مني أن أحكي له عن هذه الأزمة فهو وأنا نتشارك بها ونعاني منها.
من يحب القراءة، يطمح بالغالب لقراءة الكتاب الذي بين يديه من الجلدة إلى الجلدة، فالانتهاء من كتاب يعدل الانتهاء من التهام وجبة دسمة، أو الارتواء من عصير فاكهة لذيذ.
لذلك يحرص القراء المتمرسون على انتقاء الكتب التي سترافقهم بالفترة المقبلة، ولكن ما الذي يحصل، يذهب القارئ للمكتبة ويشتري الكتاب من حر ماله، ويقتنيه، وبعد ذلك يقتطع له من وقته الثمين وقتا خاصا له مع وجود بدائل عديدة، لكنه لثقته بصديق أو خبير يثق بذوقه واختياراته، يقرر تقديم هذا الكتاب على أقرانه، يتوكل على الله ويبدأ القراءة، يقلب الصفحات الأولى بحذر كبير، يعذر القارئ المتمرس الكاتب إن لم يوفق بالصفحات الأولى لأن الجوهر يكون بالمنتصف غالبا، فيجد القارئ نفسه بعد فترة من الزمن مازال بالمقدمة، الوقت يمر والأحداث لا تمر، يقدم نفس الأعذار لعل وعسى الخلل منه والتقصير من مزاجه السيئ.
يغلق الكتاب، ويرتاح قليلا، ويصفي ذهنه، ويأخذ كوبا من القهوة، ويرجع لذات الكتاب فيعقد العزم على المضي قدما بالقراءة الحثيثة حتى يغوص بأعماق الكتاب، لأن الكتاب إما تتملكه أو يتملكك، فالكتاب الذي تتملكه يصبح طوع يدك والذي يتملكك تصبح طوع يده.
وربما تتفاجأ أثناء القراءة أن لغة الكتاب صعبة، والسرد متداخل، والأحداث بطيئة، تحاول الاستمرار ولكن النعاس يغلبك، والسآمة تقتلك، والرغبة بتركه تتملكك، كل هذه العوامل والنوازع البشرية ليست كافية لتوقفك عن تقليب الصفحات، فالقارئ المتمرس لا يتوقف حتى بأحلك الظروف.
تستمر وتستمر بتقليب الصفحات وأنت منهك اليدين، خائر القوى، محبط العزيمة، حتى تصل إلى منتصف الكتاب، فتعود إليك روحك لعل وعسى أن أجد بمنتصف الكتاب الفرج الذي يعيد لي نشاطي وقوتي وحيويتي، فتتفاجأ أنه لا شيء بالمنتصف، فلا الكاتب استطاع أن يقدم لك ما يشبع عندك الفضول، ولا لغة الكتاب أشبعت عندك النهم اللغوي، فتصاب حينها بأزمة «منتصف الكتب».
بعد أن قطعت نصف المشوار ماذا تصنع، هل تكمل ما بدأته حتى تكون وفيا لعاداتك وتقاليدك، أم تتوقف وتبدأ مع كتاب جديد، وعنوان مثير، وكاتب جدير، ما هو الحل الأنسب والطريقة الأمثل التي عليك اتباعها.
بعض القراء يدوس على مبادئه ويقرر إنهاء علاقته بالكتاب، مع أنها تخالف طريقته، ولكن ما الذي عليه أن يصنع أيضيع الدقائق والساعات على كتاب لا يقدم له الإضافة، فالحياة قصيرة ويجب الاستمتاع بها، فلماذا أقضيها بصحبة من لا يستحقها.
والبعض الآخر يقول لعل وعسى يكون هناك بصيص أمل بالنهاية فليست كل النهايات كالبدايات، وما يدريني لعل الكتاب الآخر يكون بمستوى الكتاب الذي بين يدي أو أسوأ، فالغلاف لا يخبر دائما عن فحوى المضمون، ونصائح القراء قد لا تأتي بالخير، وخير لك أن تنهي ما بدأته بخيره وشره لعل وعسى أن يكون الخير أكبر بالنهاية.
أزمة منتصف الكتب، أزمة حقيقية يمر بها القراء مع الكتب، ويمر بها كل واحد منا في حياته بقرار متخذ، ومشروع ابتدأ، وصحبة تكونت، فالترك والاستمرار هو قرارك، والتبعة والحمل تقع على عاتقك، والاتخاذ الأسلم والآمن لك هو مسؤوليتك.
[email protected]