خالف الاقتصاد العالمي التوقعات في السنوات الأخيرة، ونجح في تفادي الركود الذي كان متوقعا إلى حد بعيد رغم موجة رفع أسعار الفائدة الأعنف منذ عقود، ووصلت أرباح الشركات مؤخرا إلى مستويات قياسية جديدة، بينما اقتربت الأرباح في أماكن أخرى من ذروتها السابقة.
وتوقع «سيتي بنك» في مذكرة بحثية اطلعت عليها «العربية» Business، أن يستمر النمو في عامي 2025 و2026، وأن يصاحبه تصاعد في الاضطرابات الجيوسياسية والسياسية.
وقال إن إدارة ترامب في الولايات المتحدة تستعد لتطبيق سياسات تهدف إلى تسريع النشاط الاقتصادي محليا، لكنها قد تزيد التوترات خارجيا، وبعض هذه السياسات المثيرة للجدل قد تؤدي أيضا إلى تفاقم الانقسامات السياسية داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي نحو 2.9% في عامي 2025 و2026، مقارنة بـ2.6% في عام 2024، وأن تظل الولايات المتحدة المحرك الرئيسي للنمو، إذ رفع برفع توقعاته للنمو فيها لعام 2025 إلى 2.4%.
وقال البنك إن الرئيس المنتخب دونالد ترامب سيسعى إلى تعزيز النمو، لكن أجندته لا تخلو من المخاطر، فقد يؤدي أي ازدهار في الإنفاق الرأسمالي إلى سوء تخصيص الموارد، وإذا تم تنفيذ التعريفات الجمركية والإجراءات الصارمة ضد الهجرة غير الشرعية، فمن المحتمل أن ترتفع أسعار السلع ويتقلص المعروض من العمالة، مما يؤدي إلى زيادة التضخم، وهو من القضايا الرئيسية التي أثارت اهتمام الناخبين.
لكن البنك يعتقد أن سياسات ترامب الداخلية والخارجية قد تختلف بشكل كبير عن خطاباته الانتخابية، وتوقع انخفاض التضخم الأساسي في الولايات المتحدة إلى 2% خلال النصف الأول من العام المقبل، ويرجع ذلك جزئيا إلى قوة الدولار وانخفاض أسعار الواردات.
وقال إن الاحتياطي الفيدرالي قد يتمكن من خفض أسعار الفائدة تدريجيا خلال النصف الأول من عام 2025، لتصل إلى نطاق 3.5-4% في ذلك العام.
وذكر أن خفض الفائدة يدعم استمرار نمو أرباح الشركات في الولايات المتحدة وحول العالم، ما يكسر القواعد المعتادة، حيث إن دورات خفض أسعار الفائدة غالبا ما تحدث في فترات انخفاض الأرباح وليس ارتفاعها.
وقال إن ترامب قد يفرض تعريفات جمركية بنسبة 60% أو أكثر على الواردات من الصين، كما وعد في حملته الانتخابية كمناورة تفاوضية لتحقيق أهداف أخرى تتعلق بالصين، وإن الصين قد تواجه ذلك بتدابير انتقامية ضد صادرات الشركات الأميركية.
توقع «سيتي بنك» أن يكون النمو ضعيفا بالنسبة للاتحاد الأوروبي خلال 2025 بسبب اعتماده الكبير على التجارة مع الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تؤدي النزاعات التجارية إلى مخاطر كبيرة للأسواق العالمية.
دورة غير تقليدية
وقال مدير الأصول العالمي «بلاك روك»، إنه عند النظر إلى عام 2024 يتضح لماذا يمكن أن تكون محاولة تطبيق دورة الأعمال التقليدية على البيانات الواردة في الولايات المتحدة مضللة عندما تكون هناك قوى هيكلية تلعب دورا كبيرا.
وأضاف أنه لو كانت هذه دورة تقليدية لكان من المتوقع أن يتباطأ النمو الأميركي مع تشديد الظروف المالية وانخفاض التضخم. لكن ذلك لم يحدث، فالتضخم انخفض، لكن النمو استمر، بحسب مذكرة بحثية اطلعت عليه «العربية Business».
وقال إن الظروف المالية شهدت تيسيرا منذ أواخر عام 2022 ـ حتى قبل أن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة ـ مع ارتفاع الأسهم الأميركية بشكل كبير، في ظل عودة الأسواق إلى طبيعتها بعد الجائحة، سواء في السلع أو العمل، وارتفاع غير متوقع في الهجرة.
وأوضح أن هذا الارتفاع في الهجرة ساهم في زيادة القوة العاملة، مما يفسر الارتفاع الطفيف في معدل البطالة الأميركي، ولم يكن ذلك مؤشرا تقليديا على تباطؤ النمو كما اعتقدت الأسواق في البداية، وشدد أن هذه نقطة مهمة يجب أخذها في الاعتبار لعام 2025، حيث إن الأسواق لاتزال عرضة لارتكاب الخطأ نفسه.
وأشار إلى أن الأسواق أصبحت أكثر حساسية للمفاجآت في البيانات مقارنة بالماضي، حيث باتت الأصول طويلة الأجل تتفاعل بشكل مفرط، ما يعزز التقلبات، وتوقع استمرار الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة، نتيجة تزايد التجزئة الجيوسياسية والإنفاق الكبير على تطوير الذكاء الاصطناعي والانتقال إلى الطاقة منخفضة الكربون.
ورجح أن شيخوخة القوى العاملة قد يبدأ أثرها في الظهور مع تباطؤ الهجرة، ما يؤدي إلى استمرار نمو الأجور عند مستويات مرتفعة تمنع التضخم من العودة إلى هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%.
واستبعد أن يدخل الاحتياطي الفيدرالي في دورة خفض تقليدية لأسعار الفائدة، فرغم أنه يرى أن النمو قد يتباطأ في الولايات المتحدة قليلا، لكن مع بقاء التضخم فوق الهدف لن يكون هناك مجال كبير لخفض الفائدة إلى ما دون 4%.
التضخم الهيكلي
ووضع بنك «HSBC» سيناريوهين للعام المقبل، وقال إن أرجحهما هو سيناريو النمو المعتدل عالميا مع استمرار المخاوف بشأن التضخم، ما يؤدي إلى تخفيضات محدودة في أسعار الفائدة من البنوك المركزية.
وقال إنه في الولايات المتحدة قد تكون هناك تخفيضات انتقائية للتعريفات الجمركية مع تخفيضات ضريبية من الحكومة الجديدة.
وأشار إلى أن السيناريو الثاني يفترض سياسات مالية وتجارية أكثر عدوانية، إذ يمكن أن يؤدي تحفيز مالي وتجاري أكبر إلى تعزيز النمو الأميركي على المدى القصير، لكنه قد يزيد من الضغوط التضخمية، مما يستلزم سياسات نقدية أكثر تشددا. قد تواجه الاقتصادات الناشئة تحديات أكبر، خاصة تلك التي تعتمد على الطلب الأمريكي.
ولفت إلى أن التضخم الهيكلي المرتفع يمثل تحديا للبنوك المركزية التي قد تكون مقيدة في قدرتها على خفض أسعار الفائدة، ما قد يثقل كاهل النمو والأرباح، مع استمرار تحول أنماط النمو عالميا.
ولفت إلى أنه في الولايات المتحدة بدأ النمو في التباطؤ، ومن المتوقع أن يهدأ أكثر في عام 2025، مما يشير إلى نهاية مرحلة «الاستثنائية» بعد الجائحة.
وذكر أنه مع تصاعد التوترات الجيوسياسية وزيادة الحمائية تتجه الاقتصادات العالمية نحو مزيد من التقلب والتجزؤ، ويؤدي ذلك إلى نظام تضخم أعلى وأكثر تقلبا، حيث تعيد سلاسل التوريد تنظيم نفسها نحو مواقع إنتاج أكثر تكلفة، كما أن انخفاض التعاون الأمني الدولي سيدفع الحكومات إلى زيادة الإنفاق على الدفاع، مما يزيد الضغط على المالية العامة.