تشهد الأسواق السورية حالة غير مسبوقة من الفوضى الاقتصادية. وبعد أن كان التعامل بغير الليرة، وخصوصا الدولار، من المحرمات التي قد تودي بالمرء إلى سجون المخابرات، أصبح التعامل بثلاث عملات رئيسية هو السائد منذ خلع بشار الأسد وهي: الدولار الأميركي، والليرة السورية، والليرة التركية. وكان التعامل بالليرة التركية يقتصر على مناطق شمال غربي البلاد الذي تسيطر عليها المعارضة، في حين كان السوريون لا يجرؤون على التلفظ بكلمة دولار وكانوا يستعيضون عنها باسم أي عشبة او خضراوات خضراء كالنعناع والملوخية والبقدونس.
هذا التنوع ألقى بظلاله على الأسواق، حيث بات لكل تاجر حرية تسعير بضائعه بالعملة التي يراها مناسبة، مما أدى إلى تباينات كبيرة في الأسعار حتى بين المحلات المتجاورة، فسلعة واحدة قد تكون لها ثلاثة أسعار مختلفة تبعا لمزاج البائع، وكل ذلك يدفع ثمنه المواطن الذي يعاني في الأصل من انهيار قيمة العملة وضياع مدخراته بانتظار رفع الرواتب الذي وعدت به حكومة تسيير الأعمال.
ويعاني المواطنون الذين يتنقلون بين المحافظات من أزمات إضافية، فالذاهبون من الشمال السوري إلى دمشق يضطرون للتعامل بالليرة السورية لشراء السلع، ما يستلزم تصريف الدولار أو الليرة التركية بأسعار تحدد وفق أهواء التجار.
وعلى الجانب الآخر، يعاني القادمون من دمشق إلى مناطق الشمال من نفس المشكلة، حيث يسود التعامل بالليرة التركية، بحسب تقرير لموقع تلفزيون «سوريا».
ولا يقتصر تأثير هذه الفوضى على السلع الكمالية، بل يشمل المواد الغذائية الأساسية، والمحروقات، والغاز، وحتى الأدوية، خاصة أن الأسعار تتغير بشكل يومي، وحتى خلال ساعات اليوم الواحد، ما يجعل التخطيط للشراء أو ادخار الأموال أمرا شبه مستحيل بالنسبة للعائلات السورية التي تعاني أصلا من شح الموارد.
محمد الأحمد، شاب في الثلاثين من عمره، يروي تجربته اليومية مع الفوضى الاقتصادية التي تعيشها الأسواق السورية.
اذ يقيم محمد في مدينة إدلب وذهب في أكثر من مناسبة إلى دمشق، ويقول: «أصبح التنقل بين الشمال ودمشق بمثابة مغامرة اقتصادية، فلكل منطقة قوانينها الخاصة، هنا في إدلب التعامل بالليرة التركية هو الغالب، بينما في دمشق يفضلون الليرة السورية، والمشكلة أنني أدفع أحيانا بالليرة التركية بعد حساب القيمة مقابل نظيرتها السورية، لكن أسعار التصريف تختلف من بائع لآخر، وأحيانا يخسر المرء جزءا كبيرا من أمواله بسبب هذا الأمر».
من جهته، يرى أبو يوسف، بائع في أحد أسواق مدينة حلب، أن الفوضى في الأسواق السورية ليست نتيجة جشع التجار كما يعتقد البعض، بل تعود بشكل كبير إلى التحديات الاقتصادية التي فرضتها الأوضاع الراهنة، وعلى رأسها تقلب سعر الليرة السورية.
وقال أبو يوسف لموقع تلفزيون سورية: «نحن كتجار نعيش يوميا تحت ضغط التقلب المستمر في أسعار العملات، خاصة الليرة السورية، في كل لحظة يمكن أن يتغير سعر الصرف، وهذا يضعنا في موقف صعب، إذا بعنا بسعر اليوم ولم نتمكن من شراء بضائع جديدة بسبب انخفاض قيمة الليرة، فإننا نخسر بشكل كبير».
وأضاف: «الأمر ليس بيدنا، كثيرا ما يأتي الزبائن ويستغربون من تفاوت الأسعار بين المحلات، لكن ما لا يعرفه الناس هو أن التجار يضطرون للتعامل مع أسعار صرف مختلفة من الصرافين، والفرق هذا ينعكس على السلع، نحن أيضا ضحايا لهذه الفوضى».
وعن استخدام العملات المختلفة، يوضح أبو يوسف: «في الشمال السوري، التعامل بالليرة التركية أصبح أمرا شائعا، لأنها أكثر استقرارا من الليرة السورية، لكن بعض السلع المستوردة تسعر بالدولار، لذلك نحن مضطرون للتعامل مع ثلاث عملات، وهذا يزيد من تعقيد الأمور».
وختم أبو يوسف حديثه قائلا: «نحن نتفهم معاناة الناس، لكن يجب أن يدركوا أن المشكلة أكبر من البائع أو الزبون. الحل بحاجة إلى تدخل من الجهات المسؤولة لتنظيم السوق وتثبيت سعر الصرف».
من جهته، يروي أحمد السيد، وهو إعلامي سوري يعمل في تغطية الأوضاع الميدانية في الشمال السوري ومناطق أخرى، تجربته الشخصية مع الفوضى الاقتصادية وتعدد العملات، التي انعكست بشكل مباشر على كلفة سفره وتنقله.
وقال السيد: «في رحلتي الأخيرة إلى دمشق، اضطررت إلى تعبئة الوقود لسيارتي من إحدى المحطات هناك، كنت معتادا على أسعار الوقود في الشمال السوري، حيث يتم التعامل غالبا بالليرة التركية، لكنني صدمت عندما وجدت أن السعر في دمشق يحسب بالليرة السورية وبفارق كبير».
وأضاف: «لم أكن أحمل سوى الدولار والليرة التركية، ما اضطرني إلى الدفع بالدولار، المشكلة لم تكن في ذلك، بل في السعر الذي فرضه عامل الكازية، والذي كان بعيدا جدا عن السعر الحقيقي، والنتيجة أنني دفعت ضعف ما كنت سأدفعه في الشمال السوري، وكل ذلك بسبب التلاعب بسعر الصرف وغياب أي جهة تنظم هذه التعاملات».
وعبر السيد عن استيائه من هذه الفوضى قائلا: «كصحافي، أتنقل كثيرا بين المناطق، وهذا يجعلني أواجه يوميا تحديات التعامل مع عملات مختلفة، الفرق في الأسعار بين الشمال ودمشق أو حلب وحمص وحماة ليس فقط في الوقود، بل في كل شيء تقريبا، خاصة المواد الغذائية».
وختم: «أكبر مشكلة تواجهنا هي أن كل شخص يحدد سعر الصرف حسب مزاجه، ولا توجد أي جهة رقابية تمنع هذا الاستغلال، المواطن هو من يدفع الثمن، وما نحتاجه الآن هو آلية واضحة لتوحيد التعاملات أو تثبيت سعر صرف عادل، فالوضع الحالي لا يخدم أحدا سوى المستفيدين من الفوضى».
وقال الباحث والمحلل الاقتصادي فراس شعبو إن التسعير عشوائي في الأسواق السورية حاليا بسبب عدم وجود هيبة للدولة أو ثقة بمؤسساتها، بالتالي، يجري التحكم بالأسعار حسب المزاج وسط تلاعب بأسواق الصرف من شركات التصريف والحوالات.
وأشار شعبو في حديث مع موقع تلفزيون سورية إلى أنه ليس من أنصار التعامل بأكثر من عملة في سورية، إذ يجب العمل على دعم الليرة السورية والتقليل قدر المستطاع من استخدام الدولار والليرة التركية، التي قد تخلق «مشاكل مستوردة».