تمر علينا هذه الأيام ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبدالناصر، وهي مناسبة لكي نسترجع بداية رحلة إنسان عربي وتجربته الفكرية والسياسية ومواقف اتخذها الرجل ضمن مواقع مسؤوليته الرسمية كرئيس دولة وكقائد تيار عروبي عاش مشروعا نهضويا، أراد معه أن يقول «لا» في زمن الـ «نعم»، إذا صح التعبير، وهي رحلة زمنية بكل إيجابياتها وسلبياتها ومع كل صعودها كـ «مشروع» وهبوط انتصاراتها وإخفاقاتها، مثلت تجربة غنية «لايزال» العرب يتناقشون حولها، ضدها ومعها، وهي تمثل جدلا متواصلا لإعادة تقييم ما حدث، وهذا كله لأن هذه التجربة كانت «محاولة» لمشروع حركي يسعى لعودة العرب إلى موقعـهم الــتاريخي الطبــيعي كـ «صناع الحضارة».
في كل الأحوال كانت «رحلة» متنوعة تمثل «تجربة رائدة» عاشها معه الشعب العربي في كل مكان وتحركوا معه عاطفيا ووجدانيا يتفاعلون معه وينتظرون خطاباته وبذلك كانوا يعيشون «الأمل» و«التمنيات» مع محاولة هذا الزعيم العربي المخلص لصناعة عودة العرب... كل العرب إلى النهوض والإبداع الحضاري.
كان جمال عبدالناصر يقول: «إننا سنعمل من أجل الاستفادة بكل قوة وبكل إمكانات وطننا وإننا فعلا نخلق البلد الذي يشعر بالقوة»، و«اننا نريد التعاون مع الغرب والشرق بكل إخلاص وأمانة دون قيود وتحفظات مادام هذا التعاون قائما على أساس المساواة وعدم التدخل والمصالح المتبادلة المشتركة».
لقد مثل الزعيم الراحل عبدالناصر ظاهرة مميزة من عمر الأمة العربية، فقد قادها نحو اتخاذ القرارات الذاتية بعيدا عن الأجانب الغرباء، وحاول خلق حالة عربية شعبية تعيش الحرية على المستوى النفسي والثقافي، وانطلق في خط «حياد إيجابي» بين صراعات عالمية لا علاقة للعرب بها، واستطاع أن يؤسس لكتلة «عدم الانحياز».
كذلك فقد بذل الجهد من أجل بناء جيل عروبي جديد يحمل «رسالة» تعيش الحرية والاستقلال وتريد صناعة المجتمع الحضاري الجديد الواثق من نفسه والساعي إلى البناء والمتطلع إلى المستقبل معتمدا على نفسه.
إن جمال عبدالناصر «الشخص» لم يفرض نفسه على الناس ولا يوجد أحد يستطيع أن يفرض نفسه كـ «قيادة»، لكنه ضمن موقعه الرسمي كـ «رئيس» أعلن مشروعه وكشف عن مبادئه وأطلق شعاراته، وتحرك على أرض الواقع وضميره يعيش الإخلاص للمشروع، فأخطأ هنا ونجح هناك وتراجع هنالك، وهذه طبيعة الأمور، لكن بكل الأحوال هو كان لديه ما يقدمه.
لقد خطط ضمن الواقع الذي كان يعيشه وواجه مشاكل اقتصادية وإدارية وتنظيمية ملتزما بـ «الوحدة العربية» ضمن قناعة بأنها لا يتم فرضها غصبا، وأن مستقبلها لا تقرره القوة وإنما تتطلبه الإرادة المستقلة لكل شعب عربي، لكنه كان يريد ان يكون في أضعف الايمان أن يكون هناك «تضامن عربي» لأن المصير واحد والقدر كذلك.
إن ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر تعتبر إعادة تذكر لـ «مشروع» وإعادة تقييم لتجربة رائدة عاشها العرب لمدة 18 سنة، وتأتي ذكرى الميلاد لكي نعيد التفكير في السؤال القديم الجديد: لماذا تأخر العرب وتقدم غيرنا؟