بلا شك لن يتوقف طعم الحياة عن السعي إلى الأحسن، فالإنسان منا بعد أن ينهي تعليمه ينخرط في وظيفته يبذل فيها قصارى جهده ليرتقي حتى يبلغ أعلى الدرجات وأكبر المناصب، ومتى وصل إلى القمة فهي الدليل إلى النهاية الوظيفية ليصل القطار إلى محطة التقاعد، وهنا ينقلب الحال، اذ تختلف الحياة، بعد التقاعد عن الحياة الوظيفية بحلوها ومرها.
ويقولون إن الحياة تبدأ بعد التقاعد، وقد يكون ذلك صحيحا، لأن الحياة الوظيفية بعد الترقي فيها تأخذ طابع الجمود والروتين ويبلغ هذا الروتين مداه قبل أن تبزغ شمس التقاعد، فتجيء لتملأ الحياة بالتغيير إلى النقيض، وقد يجد البعض في التقاعد ثقلا وحملا كثيرا لعجزه عن إدارة وقته وأيام حياته الجديدة، فيجد صعوبة في استغلال هذه الحرية من قيود ولوائح وقوانين العمل والوظيفة، وكثيرا ما يشعر المتقاعد بأن خبراته التي طورها طوال السنين، ولياقته الفكرية التي بناها، وقدرته على العطاء ما زال لم يحن قطف ثمارها بعد، فيشعر بأن هذا التقاعد جاء ليقض مضجعه، وينغص عليه حياته.
والحقيقة ان هذا التخيل غير مناسب تماما ولا يحقق أي طموح، وأرى أن المشكلة لدى المتقاعدين من هذه النوعية الفكرية، بدأت منذ شبابهم لأنهم تركوا أنفسهم للعمل، والعمل فقط، ولم يتملكوا هواية مفيدة يقضون بها بعضا من وقتهم وللترويح عن النفس أيام الوظيفة وملل الروتين وقيود اللوائح، لأن مثل هذه الهواية يمكن أن يعتبرها الموظف استراحة إجبارية من عناء العمل اليومي المضني، ولا شك أن اعتزال الوظيفة والتقاعد لم يكن أبدأ نهاية المطاف، بل بدء المطاف من جديد، لأن النشاط الإنساني لا يتوقف مطلقا عن نقطة معينة، ما دام القلب ينبض بالحياة.
إنني أعرف أناسا ندموا كثيرا بسبب تضييع حياتهم في الوظيفة مقارنة بالنجاح الذي حققوه بعد التقاعد نجاحا ماديا ومعنويا يفوق بكثير ما حققوه من العمل الرسمي قبل ذلك، كل ذلك بسبب إعداد برنامج والتخطيط له حتى تبلغ لديهم درجة الإبداع، فتتفجر لديهم الكثير من الطاقات والإمكانات والابتكارات بعد التقاعد لتبدأ حياة جديدة مليئة بالحيوية والنشاط والعمل المثمر، فيبلغ المرء ذروة القمة التي لم يبلغها في الوظيفة الرسمية، لأنه تحرر من قيود الروتين، لذلك أنصح العابرين للحياة على جسر التقاعد والمنتظرين في طابور العبور، فمهما طال الانتظار فلا بد أن يجيء لكل منا الدور للتقاعد.
إن النفس البشرية للإنسان تملأ بالأمان والطمأنينة وتتحول إلى سعادة فتزيد معها الحياة بهجة وتنثر ورودها فيما حولها فتزيدها جمالا على جمال، ويومئذ تكون حياة التقاعد أكثر استعدادا وأكثر طموحا، فأعدوا العدة يا إخواني ويا أخواتي الأعزاء من الآن استعدادا لهذا اليوم الذي تنقلون به من نشاط إلى نشاط آخر وأنتم في حلة جديدة زاهية وعقلية نشطة لتعيشوا بقية حياتكم العملية وأنتم في قمة السعادة والرضا.