رحل الرئيس الـ 39 للولايات المتحدة الأميركية 29 ديسمبر الماضي عن عمر تجاوز 100 عام. وقد كان السؤال الأبرز في حياة كارتر لزوجته روزالين كارتر (1927 - 2023) «ماذا نحن فاعلون بعد خروجنا من البيت الأبيض؟».
عندما خاض كارتر (1924 - 2024) انتخابات الرئاسة الأميركية عام 1976 كنت في نهايات سنوات دراستي الجامعية في الفترة (1973-1977). وأذكر أن أحد أساتذتي في الجامعة استوقفني بعد انتهاء المحاضرة، وسألني عن الفائز بالانتخابات، وكان كارتر حاكم ولاية جورجيا مرشحا للديموقراطيين ووجها غير معروف، ينافس الرئيس الجمهوري آنذاك جيرالد فورد (1913 - 2006) الذي أتى بعد سنة من فترة الرئيس ريتشارد نيكسون (1913 - 1994) الثانية التي انتهت بالاستقالة، وهي أول استقالة رئيس في تاريخ أميركا.
كان السؤال غريبا من أستاذي، لأني لست أميركيا فأتابع الانتخابات المحلية، كما أني طالب هندسة ولست طالب علوم سياسية، فلماذا يسألني هذا الأستاذ عن الرئاسة الأميركية؟! وفكرت لحظة ثم أجبت باختصار: إن كارتر سيفوز، استغرب الأستاذ من إجابتي! ولكنه بادرني بسؤال آخر أشد من الأول، ولماذا تعتقد أنه سيفوز؟! هنا لامست قلبي راحة، مما شجعني على الجواب بهدوء، فقلت: إن كارتر يمثل نقلة نوعية بين الرؤساء الأميركيين، حيث يقدم خطابا هادئا مبتسما بعيدا عن رفع الصوت والرسمية، كما أن بيئته الريفية وبساطة طرحه تشجع على الثقة به، وهذا ما تحتاج إليه أميركا اليوم، ولاسيما بعد خروجها المنكسر من حرب فيتنام (1955-1975)، وتجسس الجمهوريين على مقر الحزب الديموقراطي في حادثة مدوية عرفت فيما يعرف بفضيحة «ووترغيت»، وما تبع ذلك من محاكمات، كانت تبث على الهواء مباشرة، وأخيرا أدت إلى استقالة الرئيس الـ 37 ريتشارد نيكسون (1913- 1994).
خسر الرئيس الـ 38 فورد بفارق ضئيل أمام كارتر، بسبب عفوه العام عن الرئيس نيكسون، وبدأت مرحلة رئاسة كارتر في فترة صعبة جدا. أما عن حياة كارتر المبكرة، فقد ولد وترعرع في بلاينز بولاية جورجيا، وتخرج في أكاديمية الولايات المتحدة البحرية عام 1946، وحصل على درجة البكالوريوس في العلوم، وانضم إلى البحرية الأميركية التي تعمل في غواصات عديدة.
وبعد وفاة والده في عام 1953، غادر حياته المهنية البحرية وعاد إلى بلاينز، حيث تولى أعمال عائلته في زراعة الفول السوداني، وخلال هذه الفترة، كان كارتر معارضا للتمييز العنصري، وداعما لحركة الحقوق المدنية، وأصبح ناشطا في الحزب الديموقراطي (1963-1967)، وفي مجلس الشيوخ بولاية جورجيا، وانتخب محافظا لجورجيا (1970 - 1975).
اهتم كارتر خلال فترة رئاسته بمعالجة الوضع في الشرق الأوسط من خلال اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، مما أوقف الحرب بينهما منذ ذلك الحين. ومعاهدات قناة بنما، والجولة الثانية من محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (SALT II). وعلى الجبهة الاقتصادية واجه حالة من الركود التضخمي، وهي التركيبة المستمرة من التضخم المرتفع، وارتفاع معدلات البطالة، والنمو البطيء. وقد تميزت نهاية فترة ولايته الرئاسية بأزمة الرهائن في إيران، بين 1979 و1981، وأزمة الطاقة في عام 1979، والحادث النووي الذي وقع في جزيرة «ثري مايل»، وثورة «نيكاراغوا»، والغزو السوفييتي لأفغانستان. وردا على الغزو، صعد كارتر الحرب الباردة، وفرض حظر الحبوب على السوفييت، وأعلن مبدأ كارتر، وقاد مقاطعة الألعاب الأوليمبية الصيفية في عام 1980 في موسكو.
وفي الانتخابات التمهيدية لرئاسة الحزب الديموقراطي عام 1980، نازله عضو مجلس الشيوخ تيد كينيدي، لكنه فاز بإعادة ترشيح نفسه في المؤتمر الوطني الديموقراطي. وخسر كارتر الانتخابات الرئاسية في العام نفسه بأغلبية ساحقة لصالح المرشح الجمهوري رونالد ريجان.
في عام 1982، أنشأ كارتر مركز كارتر لتعزيز حقوق الإنسان وتوسيعها. وفي عام 2002، حصل على جائزة نوبل للسلام، لعمله في تأسيس المركز. ولقد سافر كثيرا لإجراء مفاوضات السلام، ومراقبة الانتخابات، ودفع جهود منع الأمراض واستئصالها في الدول النامية. وقد كتب أكثر من 30 كتابا، تتراوح بين المذكرات السياسية والشعر.
لقد عاش كارتر 4 سنوات (1977- 1981) في الرئاسة، و44 سنة بعد الرئاسة، أنجز فيها ما لم ينجزه في تلك الفترة، حتى انه حاز جائزة نوبل للسلام، وهذا درس عملي لكل من يحزن على أنه غادر منصبه الوظيفي، بأنه يستطيع أن يبدع وينجز أكثر وأكثر في الأعمال الخيرية والتطوعية وغيرها.