يقال إن للنبل ثمناً، قد يكون مرا، فالنبيل يترفع وهو يستطيع الخوض، قد يصمت وهو يملك كل أدوات الكلام، يخفي حزنه وبؤسه لأنه يحمل سمات العزة والكرامة، وعندما يرى ما يسوءه لا يكثر العتاب إنما يغادر كما تغادر الطيور.
النبل صعب، لكنه في النهاية يرفع صاحبه إلى مكانة سامية تتجلى فيها أسمى معاني المبادئ. فالنبيل، في رحلته عبر الحياة، يتعلم أن الترفع عن الرد على الإساءة والابتعاد عن الخوض في الصراعات ليس ضعفا، بل هو منتهى القوة والعزة، صمته هذا ليس عجزا عن الرد، بل هو اختيار واع للتعالي فوق التفاهات والتركيز على ما هو أسمى وأرقى.
فالشخص النبيل عندما يرى ما يسوءه، لا يكثر العتاب ولا يستهلك طاقته في التوبيخ واللوم، بل يختار الابتعاد بهدوء.
وذلك لأنه يعلم أن العتاب الكثير لا يزيد الأمور إلا سوءا، وأن الترفع عن صغائر الأمور هو السبيل الأمثل لحفظ كرامته وصون سموه.
تأتي حكمة المتنبي لتعزز هذا المعنى بقوله: «تلذ له المروءة وهي تؤذي». فالنبل قد يؤذي صاحبه أحيانا بما فيه من التكاليف في مسيرته، لأنه يمر بالكثير من المواقف التي تتطلب منه الصبر والتحمل.
ولكنه مع كل تحد يتجاوزه، يزداد عظمة، حتى إن كان ذلك يتطلب منه تضحيات شخصية ومعاناة.
النبيل هو الذي يرى في الصمت حكمة، وفي الابتعاد رفعة، وفي كتم الحزن قوة.
إنه يختار الطريق الأصعب، لكنه الأجمل، حيث يمضي قدما برأس مرفوع وقلب مليء بالسلام والطمأنينة. هذا هو النبل الحقيقي، ثمنه باهظ، لكنه يستحق كل تضحياته.
في عالم اليوم، قد تبدو هذه القيم بعيدة المنال أو غير عملية للكثيرين. في ظل مجتمع يميل إلى الرد السريع والدفاع العنيف عن الحقوق، يعد الصمت أحيانا علامة ضعف. ولكن النبيل يعرف أن قوة الصمت تفوق صخب الكلمات. إنه يدرك أن الصمت في وجه الجهل هو أفضل رد، وأن الابتعاد عن الجدل العقيم هو أسمى أنواع الحكمة.
النبيل يختار دائما أن يرفع نفسه فوق الصغائر، فلا ينحدر إلى مستوى من يحاولون جره إلى مستنقع النزاعات الشخصية.
إنه يركز على الأهداف الأكبر فقط، وعلى السعي نحو تحقيق رسالته في الحياة.
هذا السلوك لا يأتي من فراغ، بل من إيمان عميق بقيمة الإنسان وكرامته، فالشخص النبيل يؤمن بأن النفس الكريمة لا تذلها كلمات، ولا تحطمها تصرفات الآخر، بل تظل دائما وفية لمبادئها وسامية في تعاملها.
هذه المبادئ طبعا ليست مجرد نظريات فلسفية، بل هي دروس عملية يمكن تطبيقها في حياتنا اليومية.
عندما نختار أن نصمت ونحن نستطيع الخوض، وعندما نبتعد بهدوء عن المناقشات التي لا جدوى منها، نحن نحافظ على سلامنا الداخلي ونمنح أنفسنا الفرصة للتركيز على ما هو أكثر أهمية.