المداراة تعني الملاينة والملاطفة وحُسن الصحبة واحتمال الزلة وخفض الجناح وترك الإغلاظ في القول، والمدافعة بالتي هي أحسن، والحقيقة أن مداراة الناس تعد جوهر العقل والحكمة، خاصة عند الاختلاف، والعفو والصفح مقرونان بمغفرة الله تعالى، القائل عز من قائل: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) (النور: 22).
وهذه من أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الله تعالى باتباع هديه، وهي من أسباب الألفة والمحبة، والمداراة لا تعني المداهنة على الإطلاق، لأنها مندوب لها، والمداهنة محرمة شرعا، وقد قال الحسن البصري: «كانوا يقولون المداراة نصف العقل وأنا أقول هي العقل كله». ويقول محمد بن الحنفية: «ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بُداً حتى يجعل الله له فرجا، وحتى الأعداء علينا مداراتهم للحذر من شرهم، ومن غرسَ المداراة جنى السلامة، وبها تُساس الأمور ويعيش الناس».
وفي ذلك يقول الشاعر:
ما دمت حيا فدار الناس كلهم
فإنما أنت في دار المداراة
إن المداراة سياسة رفيعة وخلق كريم تجلب المنفعة وتدفع المضرة ولا غنى لأحد عنها، على أنه ينبغي التوسط فيها حتى لا تصل بنا إلى المداهنة فنقع في المحظور، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) (الإسراء: 29). ونحن نعلم أن النفوس غير متشاكلة، والطبائع غير متماثلة، فأضحى لزاماً علينا أن نعاشر الناس بالحسنى لتقضى أمورنا دون تذلل، فمن هجر المداراة قارنه المكروه. وقد قال معاوية بن أبي سفيان: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خليتها، وإن خلوا مددتها».
وسبّ رجل عبدالله بن عباس، فلما قضى مقالته قال لمولاه عكرمة: «انظر هل للرجل حاجة فنقضيها له؟ فنكس الرجل رأسه استحياء»، ودمتم سالمين.