بلغ عدد القضايا المرفوعة من بعض أولياء أمور الطلبة المتهمين بالغش إلى 1000 قضية ويتوقع وصولها إلى 1400 قضية، والعجيب في هذا التحرك هو ذهاب أولياء الأمور الى المحاكم مطالبين بالحق ورافضين للظلم الذي تعرض له أبناؤهم وكأنهم لا يعلمون أن لا وجود للحق إلا بوجود الحرية، والحرية بجوهرها تعني المسؤولية، فهل ما أقدم عليه أبناؤهم من ممارسات للغش تعتبر مسؤولية؟ كما أن انتفاء الحق هو انتفاء للحرية وبالتالي انتفاء المسؤولية وعليه ينتج الظلم، ومن ذلك نفهم أن لجوء أولياء الأمور الى المحاكم لم يكن من باب الحق، لكن من باب المظلومية، وليس الظلم، الناتجة عن تصرفات أبنائهم غير المسؤولة، والتي عززها أولياء الأمور بجهلهم بمفاهيم الحق والظلم واختلاطها عليهم بمفهوم المظلومية.
خطورة هذا الأمر تكمن في أمرين: الأول، تعزيز اللامسؤولية لدى الأبناء والمكابرة بها وبالتالي تعزيز انتفاء الحقوق والحريات تباعا، والثاني إقحام المحاكم في قضايا لب صميمها الأخلاق والقيم، فالمحاكم تنظر في القضايا بصفة مفردة وتدرس حيثياتها ومعطياتها وظروفها المفردة مثل مدى تحقق الشروع أو تحقق الشروع والوقوع بالجرم، مدى قوة التحقيق، تواجد المستندات والأدلة وغيرها من الأمور الأخرى، وعلى ذلك تصدر المحكمة حكمها، وخطورة هذا الأمر في أخذ هذه الأحكام، (التي صدرت تبعا لظروفها القانونية وليس تبعا لقيمتها الأخلاقية)، مستقبلا كسند في قضايا الغش الأخرى بهدف تبرئة أصحابها، هذا بخلاف الضغط الذي تسببه هذه القضايا على المحاكم والقضاة وبخلاف «الشوشرة» الإعلامية وتكسباتها الصحافية على حساب الصالح العام.
الحكم الأخير الصادر في قضايا الغش أثلج صدورنا بإعلانه صراحة أن الغش غير مقبول أخلاقيا وقيميا، وأنه آفة يتوجب التصدي لها وليس الدفاع عنها، هذا الحكم أوضح ما أشرت إليه في بداية مقالي هذا انه ليس من مسؤولية المحاكم النظر في مدى وقوع الغش من عدمه أو الشروع به من عدمه وتكدسها بقضايا كقضايا الغش المدرسي بسبب جهل بعض الأفراد في مفاهيم الحقوق والظلم.
هذا الحكم السديد كشف سوء إدارة الحكومة وأشار بشكل ضمني غير مباشر الى ضعفها وعجزها في التعامل مع قضية أساسية وجوهرية كقضية الغش ووضعها في أطرها الأخلاقية والقيمية، فرؤية الحكومة وعلى مدى عقود عززت من نهج الواسطات والمحسوبيات واستباحة الحقوق وكسر القانون.
ونتيجة لذلك، نشأت أجيال (أولياء أمور وأبناء) بمفاهيم مشوّهة عن القيم واختلاط مفاهيم الغش (كفعل سلبي سيئ) بمفاهيم الحق والظلم، فالحكومة بنهجها خلقت فردا يعتقد أن التعدي واستباحة الحقوق (كالغش) هو حق مكتسب له، وبالتالي يشعر بالمظلومية ويطالب بحقه في استباحة الحق العام أي القانون والنظام العام!
ما يزيد الأمر سوءا، هو تأصل هذه الظاهرة لتصل إلى طلبة المراحل الابتدائية، وهي في تزايد سنة تلو الأخرى، فيا ترى كيف تجرأ طفل ذو تسع أو عشر سنوات على ممارسة الغش وهو بهذه السن الصغيرة؟ أي تأصل للغش هذا؟ أحد التعليقات على خبر عن الغش بإحدى الصحف الإلكترونية قد يحمل في طياته إجابة عن تساؤلي حيث قال: «كيف لا نغش والحكومة غشاشة»! ماذا زرعت حكوماتنا المتعاقبة في شعبها بسبب تدهور قيمها وضياع منهجيتها التي غلبت فيها المصالح الخاصة للبعض على العامة ويسّرت لها كل السبل من كسر للأخلاق والقيم لتحقيق مآربها.
لا أتوقع من الحكومة الحالية أي موقف، لكنني أشد على يد وزير التربية د.حامد العازمي وأقترح عليه إصدار قرار يشرح به الغش ويحدد شكله ويضع سياسات إجرائية ولوائح إدارية تعمَّم على كل الطلبة والمدرسين، على حد سواء، في بداية كل سنة، وتقوم إدارة المدرسة بشرحها لهم وإعلانها في أماكن واضحة ليطلع عليها الجميع من طلبة ومدرسين وأولياء أمور، وتشتمل على إجراءات تأديبية للغش، وبذلك يتم نشر مفهوم الغش كفعل لا أخلاقي ومجرّم، وفي المقابل تعزيز قيمة الأمانة والصدق ومسؤولية العلم والتعلم وفي الوقت ذاته يحد من لجوء البعض الى المحاكم.
www.aliafaisalalkhaled.net