حسنا يا بوفهد.. ألسنا أحرارا في تصديق أو تكذيب أي أمر كما قلت ذات مرة؟ إذن لن أصدق تلك العبارة التي وردتني صباحا في رسالة نصية من سعود السنعوسي:
«إسماعيل عطاك عمره».
أغضيت عنها، علها مزحة ثقيلة كغالب المزحات الصباحية التي تنتهي بضحكة عن الرجل الذي يكره النكد. أنتظر بقية المزحة، لكنها لا تأتي، كنت يا بوفهد أمارس رياضة المشي مع تسنيم، لعلك تتذكرها، تسنيم رفيقتنا في سفرنا البري إلى البحرين قبل سنوات. أبعث لسعود بعلامة استفهام، يأتي الرد منه بعد دقائق:
«أنا رايح له البيت»
ساورني قلق، ولكن ما الذي يدعو سعود لزيارة إسماعيل إن كان الخبر صحيحا؟ لعله مجرد تعب عابر بالغت الناس بتأويله. وردتني رسالة من البحرين:
«هل الخبر الذي سمعناه عن اسماعيل فهد صحيح؟» يسألني الصديق إسماعيل زمان.
هذه المرة أهاتفك يا بوفهد، يرن ويرن ويرن.. فلا ترد، رسالة أخرى من سعود:
«شفته»
ياااااه! تبددت الوحشة التي انقبض لها صدري. إشاعة وفاتك كما يحدث دائما مع المشاهير تبددت برؤيته لك. طمأن تسنيم: غير صحيح، سعود شافه. استغربت تسنيم وهي تترصد الأخبار في الإنترنت وتنظر إلي: «لكن الناس يترحمون عليه في السوشيال ميديا!»، فأرد عليها بكل ثقة: «تسنيم! سعود كان عنده في الشقة وطمأنني بكلمة: شفته!» يتصل السنعوسي فأبادره:
«أين اسماعيل؟»
يجيبني باهتا:
«كان أمامي في فراشه».
استأنفت مشيتي وأنا أطلق زفرة ارتياح:
«أف! الحمد لله».
زال التوتر، إشاعة وانجلت مثل ضباب صباحي.. تنهدت:
«اي.. زين»
عاجلني سعود يريد إفهامي مالا أريد فهمه بنبرة منفعلة:
«عبدالوهاب! بوفهد.. مات!»
لا أدري من فينا أغلق الخط ينهي المكالمة. التفتّ إلى تسنيم أمرر الخبر لها ببرود:
«أبو فهد مات..».
«هل تريد الجلوس؟».
«لا.. خلينا نمشي» ومشينا. احتلنا صمت مثل فترات الصمت التي تخللت طريق بوحدرية في سفرنا البري إياه، ولكن هذه المرة من دونك.
الآن أفكر: لماذا لم أصدق الخبر رغم تواتره؟
لا أدري ولا أدري ولا أدري.. لن أقبض على إجابة يا بوفهد.
كان صباح سبت ربيعي رائق يوم زرتك في مكتب الصالحية عام 2010 لأول مرة. خرجت مبتهجا، أذكر أن السماء أمطرت وأمطرت. هل أخبرك أحد من قبل يا بوفهد أنك ناقل ممتاز للبهجة؟ طبعا أخبرك العشرات ممن عرفت.. هل أسرد ذكريات بيني وبينك عن القراءة والكتابة والرحلات والسفر؟ العشرات أيضا يمتلكون الذاكرة ذاتها عن ترحيبك، وذاكرتي لن تكون مختلفة، لعله الإحساس فقط.
أقلب المائتي فلس المعدنية في كفي متربصا فسحة أركن بها سيارتي إلى جانب حائط مقبرة الصالحية، ألقم جهاز احتساب الوقت العملتين واحدة تلو أخرى، وأدير المقبض ليتبدل اللسان الأحمر بلسان أصفر، يمنحني ساعتي انتظار، ساعتين غنيتين أقضيهما معك. أدفع باب عمارة المنيس فألج زمانا آخر، بهو يعبق بالرطوبة ورائحة الكيروسين والغبار، أخطو فوق الرخام النبيذي، نحو المصعد، يضيء زر الرقم 3 ويبدأ صوت التروس والرافعات وأحمل إلى الأعلى. أطرق الباب وأفتحه:
«هلاء»
«حي الله»
«تعيش»
«ياجميل»
«يا جووم»
«كوفي»
«جووم»
«تي»
«اقرأ»
«إلى اللقاء»
كلمات معجونة بصوتك المميز والقابل للتقليد بلذة المحبة وأنت تودعني حتى المصعد. صوت التروس والرافعات تنزلني للطابق الأرضي، أجتاز رائحة الكيروسين والغبار، وأدفع الباب، أصل لجهاز احتساب الوقت فأجده مادا لسانا أحمر يعلمني بانقضاء الساعتين. بربك يا بوفهد كيف انقضى الوقت؟
في زمن سابق، كنت أزور معرض الكتاب وعندما أراك تخطو بلباسك المميز، قميص وبنطال بنفس اللون، شاربك الذي ينسدل على جانبي فمك. ألكز من معي وأقول، هذا روائي كويتي كتب إحداثيات زمن العزلة، رواية عن الاحتلال العراقي. أدنو منك لأسترق السمع، ماذا تقول، بماذا توصي الآخرين؟ ذاك كان زمن لم أفكر فيه بأن أكتب. عندما فكرت في الكتابة، وجدت باب مكتبك مشرعا لي كما هو للجميع. سأخبرك بشيء لم أخبرك إياه قبلا، كنت أستمتع عند لقائك بأمرين: حديث ذكرياتك الممتعة بين المدن وسيرتك الطويلة التي جعلتني أتأمل مليا في هذا العالم، وتوصياتك بجديد ما تقرأ.
في هذا الزمن عندما ألمحك في معرض الكتاب بزيك المميز وشاربك المنسدل على طرفي فمك، كنت تلوح لي عارضا علي أن أرافقك، كما تعرض على جميع من تعرف. أتأمل المسافة بين الزمن الذي كنت أراك فيه من بعيد وهذا الزمن الذي أرافقك فيه، ما الذي اختلف؟ بربك يا بوفهد كيف انقضى الوقت؟
ذات مساء هاتفتني وقد أعد لك الأصدقاء، على رأسهم إسماعيل زمان، فعالية في البحرين:
«مساؤك الخير.. لن أذهب إلى البحرين!»
يومها شهقت، فالمنظمون يترقبون وصولك في المنامة! ضحكت ضحكتك التي أحب ويحبها كثر:
«يا عزيزي نؤجلها للعام القادم»!
أخبرتني يومها عن خلل في التذكرة أو ما شابه، أذكر أنني أغلقت الهاتف وقد اتفقت معك على أن نسافر سوية في السيارة. كنت أراك من بعيد، صرت أزورك في المكتب، والآن أمر عليك بسيارتي مع انبلاجة الفجر، أسفل شقتك في حولي، لأصحبك مع تسنيم في الطريق الممتد من الكويت وحتى البحرين. كان الأفق شاسعا برحابة ضحكتك وقصصك عن أول رواية، وعن الناشر سهيل إدريس الذي هتف لمبيعاتها سعيدا:
«عمرت الدار»
رغم أن الطريق نحو البحرين يمتد جنوبا إلا أن حديثك كان مثل نيلك يجري شمالا.. نحو شط العرب، مراقبتك للأبوام الخشبية الكويتية تمخر ملتقى النهرين لتحمل التمور، السبيليات حيث ولدت، أول زيارة لبغداد ودراستك هناك لعام أو اثنين، مراقبتك للطائرات أثناء هروبك من الحصص، اعتقالك لنشاط سياسي، ذكرياتك في بيروت وانطلاق الحرب الأهلية فيها، ناجي العلي وقدومه للكويت عبر قطار وباص ووقوفه في إحدى المحطات يمسك بالحنظل في الساحة الترابية، كافتيريا سينما الحمراء في الدور الثاني، حيث تجتمع مع أدباء كويتيين وعرب، زيارتك لموسكو في مؤتمر أدباء آسيا وجولاتك في عاصمة الاتحاد السوفييتي وزيارة نقولا زيادة، رفضك الكتابة عن صدام حسين وحروبه إبان الثمانينيات، المقاومة في فترة الاحتلال وكتابتك للملخصات اليومية وإرسالها للخارج، القاهرة ولقاؤك بنجيب محفوظ. وو وو، هل لي أن أشكر الخلل في تذكرة الطائرة الذي منحني هاته الخمس ساعات؟ بربك يا بوفهد كيف انقضى الوقت؟
أرجع لسؤالي:
ألسنا أحرارا في تصديق أو تكذيب أي أمر؟
كيف تريدني أن أصدق أنك لست الآن في مكتبك في الصالحية تضحك ممسكا بكتاب؟
كيف تريدني أن أصدق بأنك لن تسألني: ما هو جديدك؟
كيف تريدني أن أصدق أنك لن تصحبني إلى لشبونة كاتبك الأثير ساراماغو كما اتفقنا؟
كيف تريدني أن أصدق أنك لن تستقبلني بابتسامتك في معرض الكتاب القادم؟
كيف تريدني أن أصدق كل هذا؟
لن أصدق.. فأنا أعرف كما يعرفك الجميع أنك لن تعوز حيلة روائية لتعود للنص ثانية. لذا لم أذهب للمقبرة كما ذهب أولئك القوم، لأنني أعرف أنها مزحة من مزحاتك التي تعشق وتنتهي بضحكة كاملة مجلجلة.. فأنت أنت الرجل الذي يكره النكد.
سأكون صريحا معك.. لأول مرة! كم أزعجني أنك لم ترد على اتصالي بك ذلك الصباح. لكني سأتناساها.. إن وعدتني بأني سأسمع منك «هلاء» عندما أتصل بك. وها هي المائتي فلس أقلبها في كفي متربصا فسحة لسيارتي قرب سور مقبرة الصالحية.