نسبة ما يقال عما هو حقيقي لا يقدرها إلا أولو الألباب، أي أن هناك فجوة اجتماعية لا تدرك الفرق بين الحقيقة والإفك فيما تسمع، ومن خلال هذه الفجوة يروج أهل الفتن والمصالح ما لا يدرك حقيقته من عدمها ضعيفو الإدراك وهزيلو الألباب، فهم أسرع من يتأثر ثم يصدق ثم يعتنق الكذب الذي صدقه على جهل، ليحوله إلى قضية يموت ويحيا في سبيل إقناع أمثاله في المجتمع بها.
ومن المعلوم أن الحجة نسبية، قد يمتلكها صاحب الحق وكذلك يمتلكها صاحب الباطل، وإلا لما اختلف الناس وتفرقت الفرق وتعددت المذاهب والطرق إلا بسبب تنوع الحجج وتضادها وحمل كل منها وجها من أوجه الصحة التي تجتذب من يراها ويغفل عن غيرها من الأوجه الباطلة في الحالة نفسها، ولكن إذا تمكن صاحب الباطل من إسماع صوت حجته، ولم يتمكن صاحب الحق من إسماع صوت حجته، امتلأ الباطل بعقول الناس وغاب عنها الحق، لأن عامة المستمعين مغرر بهم ولا تدرك عقولهم ضلالة ما يتبعون، وهنا يقع الإثم المغلظ على أصحاب الحق القادرين على إقامة الحجة لأنهم لم يتكفلوا بالقيام بفرض الكفاية في حالة الواقع الذي لم تقم الحجة فيه مع مقدرتهم على ذلك.
وهنا نستخلص الاستراتيجية الأولى:
1- «تأكد أن صوت حجة الفكر القويم أعلى من صوت حجة الفكر الضال».
وما هو معلوم أيضا بواقع التجربة أن الفراغ الفكري الذي لا تملؤه انت، سيملؤه غيرك، وإن أغلب دهماء الناس وغوغائهم عقولهم كالوعاء الثمين الذي يحرص جميع بائعي الأفكار على ملئه بها وتقديم ما يبيعونه من فكر فيه لتجميل منتجهم الفكري وتسويقه بين الناس للتأثير على سلوكهم بما يخدم مصلحتهم الخاصة.
2- «تأكد من ملء الفراغ الفكري في عقول عامة أفراد المجتمع حتى لا يملؤه غيرك» ومن هذا المنطلق كان لزاما على الدولة أن تعزز «التفاعلية الفكرية» بين ومع ومن وإلى أفراد المجتمع، وأن تعبئ حجتها في المجتمع بشتى الوسائل المباشرة وغير المباشرة، وأدعي أن ذلك سيكون أنفع لاستقرار أيديولوجية وثقافة المجتمع من إجراءات منع تداول الفكر الضال لأنه سيجد هذا الفكر طريقه في عصر العولمة إلى عقول دهماء الأفراد وعامتهم، ولن نستطيع منع وصوله، بينما لو عززت الدولة التفاعلية الفكرية واستثمرت كل وسائل تعبئة عقول أفراد الدهماء بفلسفة فكرية يصنعها النخب بتفويض من الدولة لملء فراغ العقول بهذه الفلسفة التحصينية سيكون من الصعب استقطاب أفراد من الداخل للعمل لصالح الخارج بسبب تأثير الفكر المصدر إليهم، وذلك لأنك حصنت مناعتهم الفلسفية بالتالي يحتاج الخارج تفكيك أيديولوجية المجتمع قبل الدخول عليه والتأثير على أفراده، وذلك أكثر كلفة عليه من الفائدة التي قد يرجوها من توظيف الداخل.
وعندما أقول فلسفة فكرية فأنا لا أعني أناشيد وأغاني وطنية، ولا اقصد تلقينا معلوماتيا وكذلك لا أعني تعزيز الارتباط العاطفي، وإنما ما اعنيه حقيقة هو بناء قناعات في عقل المواطن بناء على فهم وتفاعل عقلي يمر به عقل المواطن من خلال عمليات تفاعلية يصنعها النظام السياسي كل فترة زمنية على مجموعة نطاقات تشمل جميع أفراد المجتمع وينتج عنها أن تتكون قناعات ذاتية لدى الفرد بحيث لا يجد الفكر الضال طريقه إليها.
3- تعزيز الفهم بدل التلقين ورفع مستوى الفلسفة الفكرية في أيديولوجية المجتمع.
وفي حال وجد الفكر الضال طريقه لأحد أفرادنا لا قدر الله، فإنه أول ما يجب علينا كمجتمع ودولة ألا نعامل ذلك الفرد كمجرم قبل أن نعامله كحالة مرضية فكرية، ويجب علينا أن نستثمر في علاج فكره كل الأدوات اللازمة والضرورية تدريجيا قبل تجريمه وتخوينه وشيطنته، فقد يكون بنى فلسفته الضالة لأن إدراكه القاصر رأى وجها منطقيا وصحيحا من أوجه حجة أهل الباطل ولم ينتبه لبطلان الأوجه الأخرى، فإذا مكنته من رؤيتها استفاق عقله من غفلته الفكرية ورجع عما كان يعتقد إلى ما يجب أن يعتقد، بينما لو عاملناه كمجرم من حيث المبدأ زادت مكابرته واشتد رد فعله وتقوقع في خندق فكره الضال كرد فعل فطري ممن هو بمثل مستواه الإدراكي تجاه سلوكنا وحكمنا التجريمي تجاهه.
وعندها نكون خسرنا الجمل بما حمل بخسارتنا غاية تعديل فكره الضال، وخسارتنا الفرد نفسه كفرد فاعل في المجتمع وهو الأهم.
4- عدم معاملة الضال فكريا كمجرم وشيطان وإنما نتعامل معه على أساس انه حالة مرضية فكرية حتى نتمكن من معالجتها بدل استئصالها.
فننحرف عن غاية صيانة ثقافة وفكر المجتمع وحماية أفراده من تأثير الخارج إلى الغرق في إجراءات أمنية وقضائية قد تكون سببا في تغول المشكلة بدلا من حلها، الواجب علينا أن نفهم حقيقة أسباب المتأثرين ودوافعهم حتى نتمكن من تفكيكها وبناء منطق فكري مضاد لها فنواجه أولا الفكر بالفكر بدلا من أن تكون المواجهة فكر ضد سلوك، عندها تكون حركتنا التأثيرية اكبر وأجدى.
5- بناء منطق فكري مضاد للفكر الضال بشتى أنواعه ومواجهة الفكر بالفكر وتجنب مواجهة الفكر بالسلوك.
ختاما: عندما نقول «الفكر الضال» لا نقصد فقط ذلك الفكر الذي يعتنقه من يفجرون أنفسهم باسم الدين، وإنما كذلك نقصد من يلحد باسم العقل، ومن يخون الدولة أو يخون المتعاقد الآخر باسم المصلحة، ومن يكسر العادات والتقاليد المحمودة باسم الحداثة، ومن يجرح ويشتم ويقذف باسم الحرية.