عندما تتحول الوسيلة إلى غاية، والغاية إلى وسيلة، يتجلى جوهر الانحراف، فتكون المبادئ والشعارات «وسائل وصول»، بينما الوصول الى المنصب غاية بحد ذاتها، بعد أن كان كل منهما مكان الآخر.
وإذا أردنا أخذ التجربة السياسية للجماعات الإسلامية كمثال فسنجد في تجربتها اضطرابا سلوكيا نتج عنه فشل نتائجي، حيث انها عندما قررت خوض تجربتها النيابية، كان ضابطها الشرعي قاعدة «أقل الضررين» ومقصدها الجوهري هو «تقليل الشر وتكثير الخير وفقا للمنظور الشرعي» ويوازيه «العمل على تهيئة المجتمع لتقبل أسلمة قوانين الدولة والبت بأسلمتها»، لذا قفزت الجماعات بكوادرها إلى وسط تلاطمات العمل السياسي دون إعداد مسبق لماهية مشروعها السياسي القائم على أساس «فهم الواقع» وإنزال «مقاصد الشارع» كما لم تعتن بإعداد إستراتيجية شاملة توضح معالم طريق الوصول الى غايتهم المرجوة.
ولأن تيارا بلا رؤية ومشروع، كدولة بلا دستور وقوانين، سيطغى بها في النهاية من تقع بيده مقاليد السطوة، فيوظف تياره بما له فيه حظوة، بدل توقيف نفسه لما لتياره من رؤية، ومن رحم هذا الفراغ تولدت «مصالح خاصة» واحتدم الاقتتال عليها بين ابناء التيار الواحد، فأغرقوا قواعدهم الاجتماعية في صراعهم وعملهم الحركي المضطرب على حساب عملهم الفكري والدعوي الذي لولاه لما وجدت تياراتهم عمقا اجتماعيا يتغذى منه مرشحوها انتخابيا.
ولأن تجربة المشاركة البرلمانية لم تحقق مقاصدها التي انطلقت من أجلها بعد مضي أربعة عقود، بل وعلى العكس من ذلك فقد تسببت في استنزاف قواعدهم الاجتماعية، وهو الذي يعتبر ضررا أعظم من سراب «خير المشاركة».
وهنا أدعو فقهاء وعلماء الجماعات الإسلامية إلى إعادة النظر في فتوى «خوض التجربة النيابية بشكل مباشر» لما في ذلك من ضرر قد وقع ومقصد لم يقع، دفعه أولى، وتركه بلوى، كما أحثهم على استعادة دورهم المرجعي الذي فقدوه بطبيعة الحال عندما رجحت كفة نجوم السياسة والعمل النيابي داخل جماعاتهم على حساب دورهم كفقهاء وعلماء شرعيين.
استنادا الى ما سبق ذكره، بات من الضروري واقعيا على الجماعات الإسلامية بقيادة فقهائها وعلمائها أن تلغي كياناتها وأذرعها السياسية وتنأى بنفسها عن المشاركة المباشرة في العمل النيابي والانتخابي، وتستعيض عن إستراتيجية المنافسة على السلطة بإستراتيجية ارشاد المجتمع والسلطة وتعزيز ثقافتهما الإسلامية.
فإذا استعادت الجماعات الإسلامية نشاطها الدعوي وتوسعت في الوسط الاجتماعي واعتبرت باقي فصائل المجتمع «شريكا إصلاحيا» بدلا من اعتباره «هدفا انتخابيا»، فسيرى المجتمع فيهم نموذجا شرعيا صادقا بسبب استعفاف عناصره عن متاع دنيوي مشوب بشبهات أخلاقية، عندها سيكون قولهم أوثق وعملهم انفع من لعب دور «الوصي» الذي أثبتت التجربة «عدم رشده سياسيا».
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أوصي علماء وفقهاء الجماعات الإسلامية بضرورة الآتي:
إلغاء الكيانات والأذرع السياسية الإسلامية في جماعاتهم، والاستعاضة عنها بتكوين مؤسسات إفتائية شرعية سياسية، يشرف عليها فقهاء وعلماء جماعاتهم بطريقة مؤسسية ومنهجية، علمية وواقعية، لتنتج لنا رؤى سياسية وبرامج عمل إسلامية ومشاريع واقتراحات بقوانين شرعية يرجع لها المجتمع كناخب، ويتبناها المرشح كنائب، وتسترشد بها السلطة كموازن، على أن يتوازى مع هذه الإستراتيجية توسعا في النشاط الدعوي من ناحية، والنشاط التعبوي الاجتماعي لتمتين الثقافة الإسلامية المجتمعية من ناحية أخرى.
akalghanim11@