بيروت - جويل رياشي
لعل أبرز إيجابيات فيروس كورونا والأزمة النقدية التي تضرب لبنان، دفع اللبنانيين الى البحث عن بدائل في كل الأشياء ومنها القطاع السياحي، ما انعكس توجها الى السياحة الداخلية في ضوء تعذر السفر لتمضية العطلة السنوية وغيرها في الخارج لأسباب عدة تأتي في طليعتها الأزمتان الاقتصادية والنقدية.
«اكتشف لبنان» هو العنوان التطبيقي الذي يمارسه كثيرون، معززين التخفيف عن جيوبهم من مصاريف وغيرها، كل ذلك أثمر العودة الى الطبيعة والغوص في الحياة اللبنانية القديمة التي كانت تعتمد على الحركة الجسدية بعيدا من مظاهر البذخ.
في هذا الإطار، تتقدم رحلات المشي في الطبيعة واكتشاف مناطق لبنانية على غيرها، وقد عادت الى الواجهة السياحة الدينية التي اشتهر بها لبنان، ولطالما جذبت لبنانيين وزوارا من الخارج من عرب وأجانب.
«وادي قنوبين» في قضاء بشري شمال لبنان، أو وادي القديسين كما يسميه البعض، وجهة أساسية تجذب الجميع على اختلاف أديانهم.
هناك يتشارك لبنانيون من فئات اجتماعية وطوائف مختلفة في رحلات مشي في أرض تغيب عنها السيارات والأسفلت، وتسمع فيها حفيف أوراق الأشجار وهدير المياه المتدفقة من علو، ثم صوت مسلكها في نهر يصب ساحلا في طرابلس في ما يعرف بنهر أبو علي.
مياه تتدفق من الثلوج الذي تغطي القرنة السوداء، أعلى قمة في لبنان، مرورا بالأرز في منطقة بشري. مياه باردة تصل فيها درجة الصقيع الى صفر مئوية، فتنعش الأبدان ويشربها الجميع مزهوا بنقاوتها وخلوها من الجراثيم.
دروب عدة يتضمنها الوادي، وتتوزع بين مسارات سهلة وأخرى صعبة ووعرة من مسارب عدة، تربط بين قضاءي بشري واهدن.
أسهل المسارات تلك التي تنطلق من أسفل الوادي نزولا من مدخل بشري في منحدرات اسفلتية قاسية لا تتيح أحيانا المسار الا لسيارة واحدة، وصولا الى قعر يرتفع 1500 متر عن سطح البحر.
هناك يركن قاصد الوادي سيارته على اسفلت او مسار من الحصى، لتبدأ رحلة مشي تستمر ساعة ونصف الساعة على مسار جالس، يسير فيه الجميع قرب النهر، وفي الغالب تحت ظلال أوراق الشجر، في أرض تكاد تكون عذراء، ولا يقطعها الا بعض الفانات التي تتولى نقل الأفراد في طريق العودة الى حيث ركنوا سياراتهم.
تغيب أكشاك البيع ومعها المظاهر الاستهلاكية، ويكثر المشاؤون من لبنانيين وعرب وأجانب (غالبيتهم حاليا من المقيمين الذين لم يغادروا لبنان جراء فيروس كورونا).
في الطريق يلتقي كثيرون ويتبادلون التحية، بعضهم يهبط من علو في مسار شاق يستهلونه نزولا قبل ولوج الدرب الكلاسيكية المؤدية الى الصرح البطريركي المحفور في الصخر، وعلى بعد أمتار منه كنيسة القديسة مارينا.
سيارة إسعاف تقوم بدورة روتينية لتقديم المساعدة لمن نال منه التعب، أو تعرض لأشعة الشمس القوية في فترة الظهر. وينصح كثيرون بالقيام بالرحلة في ساعات الصباح الأولى، الأمر الذي يتعذر على قاصدي المكان من خارج محافظة الشمال، ذلك انه يبعد ساعة ونصف الساعة عن مدينة جبيل التي تقع في الوسط بين العاصمة بيروت ومحافظة الشمال.
في الدرب مطاعم عدة تقع قرب النهار، الى جلسات «اخترعها» الناس وجعلوا منها أمكنة للجلوس وتمضية الوقت.
إلا أن المكان الأكثر شهرة هو مطعم «أبو جوزف» الذي يعرفه قاصدو الوادي، ذلك انه يقع منفردا في النقطة الأبعد المؤدية الى البطريركية وكنيسة القديسة مارينا.
ويوفر صاحب المطعم فانات لنقل الركاب في طريق العودة، بعضها مكشوف ويعرض الركاب للغبار وكأنهم في رحلة سفاري، الى جانب الخضات التي يتعرضون لها نتيجة المسار الوعر.
ابو جوزف السبعيني يلخص حالة البلد، ويعيدك الى أرض الواقع، بتكرار حكاية الغلاء وارتفاع الأسعار وخصوصا اللحوم، الى فقدان العملة قيمتها، مشيرا الى انه كان يتقاضى زهاء 40 دولارا أميركيا على الشخص الواحد، وانخفاض التسعيرة حاليا الى أقل من 5 دولارات.
المسار بعد المطعم يميل صعودا، وتستخدم فيه العصي القديمة، ومن هناك أيضا يمكن النزول في رحلة تستغرق ساعات الى دير مار انطونيوس قزحيا في اهدن، أو التوجه الى المقر الصيفي للبطريكية المارونية في الديمان في مسار وعر وقاس، لا يمكن سلوكه لغير محترفي المشي.
طبيعة خلابة في إحدى البقع في شمال لبنان، وهي نقطة من أهداف عدة يمكن إدراجها على لائحة السياحة الداخلية، «الأوفر» على جيب اللبناني في هذه الضائقة.