أراد علماء الفلك والفيزياء سابقا معرفة طريقة حركة الشمس والأرض والقمر تحت تأثير الجاذبية، ولأن معرفة حركتها معقدة في حينها وصعبة الحل، أطلقوا على هذه المسألة (معضلة الأجسام الثلاثة)، ومن ضمن كل الحلول المطروحة لحل هذه المعضلة خرجت ما يسمى (نظرية فوضى الكون) ويقصد بها أن ما يبدو للإنسان فوضى كونية هو بالواقع مرتب ترتيبا شديدا وفق حركة ثابتة قابلة للقياس، وأخذ الفلاسفة والمفكرون هذه النظرية الفيزيائية وطبقوها على الأحداث الأرضية، وان حدثا صغيرا كطيران فراشة تهز الهواء بجناحها الصغير في الصحراء العربية قد يؤدي إلى عواصف مدمرة في اليابان، من هذا المثال أخذت النظرية الفلسفية اسمها (نظرية تأثير الفراشة Butterfly effect).
نعيش حاليا مثالا حيا لهذه النظرية، فمهاتير محمد صاحب النهضة الماليزية اعتزل السياسة منذ أكثر من 15 عاما، بسبب تفشي الفساد في ماليزيا يقرر العودة لرئاسة الوزراء ويفوز بالانتخابات في 2018 وهو بعمر 92 سنة، وأول قرار اتخذه هو منع الطائرات من التحليق حتى لا يهرب سراق المال العام، فقبض على الفاسدين ومن بين تهم الفساد قضية الصندوق الماليزي، تنتقل التحقيقات إلى الولايات المتحدة الأميركية التي كان الصندوق اقترض مبالغ كبيرة من شركاتها، ماليزيا وأميركا تكتشفان أن هناك أموالا ذهبت للكويت، يعاد فتح التحقيق في الكويت، ويبدأ انكشاف الفساد في هذه القضية التي مازالت تحت التحقيق، وتتوالى الأحداث المعروفة حتى تحدث تسريبات الفيديوهات المعروفة، ومازال موضوع الصندوق يجري في تحركاته في كل الميادين والبلدان.
لو حدث خلل بأي ضلع من أضلاع الحدث لتغيرت النتيجة، الأحداث لا يمكن إزاحتها من سياقها لأن الكل يمثل الجزء والجزء يمثل الكل، أو كما قال فيتشيه: لا يمكنك إزالة حبة رمل واحدة من مكانها دون تغيير شيء ما عبر جميع أجزاء الكل اللامحدود. فمهاتير محمد الرجل التسعيني لو مرض أو تعب قبل قراره بالرجوع إلى رئاسة وزراء ماليزيا مثلا لاختلفت كل النتائج السابقة. وعلى الرغم من هشاشة الأحداث المتراكمة وسهولة تغييرها إلا أنها أدت لأحداث كبيرة، فالعامل الماليزي الذي ذهب ليصوت لمهاتير لم يكن يعلم أنه سيكشف الفساد في أميركا والكويت ومازالت الأحداث مستمرة.
كل إنسان لديه في أحداثه الصغيرة الخاصة، تأثير للفراشة، السيطرة على بداية الحدث والتحكم بعادات وسلوك الإنسان البسيطة التي قد لا يكون الشخص العادي يحسب حسابها، تحفظه من التعرض لأمور لا يرغب فيها، وتجلب له أشياء يرغب في تحقيقها، فحتى الكلمة التشجيعية التي تقولها لطفل صادفته بحديقة عامة قد تجعل من هذا الطفل عالما، والكلمة المحبطة لنفس الطفل قد تؤدي إلى انتحاره عندما يكبر، لذلك لا يمكن اجتراء الإنسان من مجتمعه وبيئته، فأفعال الإنسان تكون نتيجة لتراكمات (فراشية)، ومعالجتها تكون عن طريق علاج المشاكل المجتمعية.
لتأثير الفراشة بوادر ممكن جدا قياسها وتنميتها، لكن مشكلتنا في الوطن العربي هي تسطيحها، فإذا ضرب طفل زميله وأراد الوالدان حل المشكلة، ترد عليهم المسؤولة: شيء عادي، هوشة يهال. وكأن الوالدين هما المخطئان، وهذا يحدث في مراكز الشرطة بين المشتكين، وقس عليها الأماكن التي ممكن من خلالها أن تسيطر على تأثير الفراشة السلبي، فالطفل الذي يضرب زميله لو تمت السيطرة عليه لما أصبح مجرما عندما يكبر، ونفس الشيء ينطبق على البوادر الإيجابية في تأثير الفراشة.