ينسب الكثيرون ثورات الربيع العربي إلى تونس، حيث اشتعال المظاهرات التي انطلقت في يناير 2011 تحديدا بعد إقدام الشاب محمد البوعزيزي على الانتحار حرقا احتجاجا على الظلم والقهر والفساد، ولكن باعتقادي البداية الحقيقية تعود إلى الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»، والتي انطلقت في يوليو 2004، حين أصدر أكثر من 300 شخص من الشخصيات العامة والمثقفة البيان الشهير المطالب بتغيير سياسي حقيقي، ووقف نزيف الظلم والقهر والفساد الذي بلغ حدا لا يطاق، وكذلك رفض مشروع توريث الحكم الذي كان يروج له آنذاك.
حركة كفاية بدأت بتوقيع وثيقة احتجاج على الفساد، تبعها عقد مجموعة من الندوات الشعبية، شاركت فيها نخبة من مثقفي مصر من بينهم المفكر الكبير د.عبدالوهاب المسيري، رحمه الله، وسرعان ما نتج عنها حركات فرعية مثل «شباب من أجل التغيير»، «عمال من أجل التغيير»، «صحفيون من أجل التغيير»، «طلاب من أجل التغيير» وغيرها وغيرها.. ثم انطلقت المظاهرات السلمية وأخذت تزيد وتتسع في حجمها ومطالبها، فكانت الحركة تعبيرا واضحا للتحول من «جيل التذمر» المطالب بالإصلاح، إلى «جيل الغضب» المطالب بالتغيير، وانتهى المطاف بثورة يناير 2011 وإسقاط النظام في 11 فبراير، بعد أقل من شهر واحد!
***
يقول علماء الاجتماع: صحيح أن الظواهر الإنسانية لا تخضع للحتمية مثل الظواهر الطبيعية، ولكن هناك دائما قوانين تحكم السلوك البشري تعطينا «نمطا» Patern يمكن من خلاله التنبؤ بما سيحدث، فكما أننا نستطيع أن نتوقع غليان الماء كلما قمنا بتسخينه، نستطيع كذلك أن نتوقع قيام ثورات تسقط الأنظمة كلما توفرت مقوماتها، ومقوماتها تظهر بوضوح مع تحول الناس من التذمر والمطالبة بالإصلاح، إلى الغضب والمطالبة بالتغيير، والذي يشكل كثرة الفساد والظلم والقهر أحد أهم عوامله.
***
من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها كل الأنظمة التي بدأت فيها مظاهر الاحتجاج والغضب من انتشار الفساد هو اعتمادها على الحلول الأمنية القمعية، فهذا بمنزلة تلويح بخرقة حمراء أمام ثور هائج!
لا شيء يسرع تحول المظاهرات السلمية إلى موجة عنف وإحراق وتكسير واقتحام لمؤسسات الدولة وتدميرها أكثر من مواجهة تلك المظاهرات السلمية بهراوات القوات الخاصة والغاز المسيل للدموع وتفريق الجموع بالقوة والعنف، إذ في الوقت الذي ينتظر فيه الناس من الحكومة أن تواجه الفساد بإصلاحات حقيقية، يجدونها تواجه وتقمع المعترضين على هذا الفساد.. لا شيء أسوأ من هذا، خاصة مع الاضطراب وجنون الصراعات الإقليمية والعالمية التي تجعل كثيرا من الدول تبحث عن خرم إبرة تنفذ منه لإشعال الفتن والحرائق وتسديد ضربة قاضية لخصومها.
مهما تكن التكلفة، يبقى أن ثمن الإصلاح أقل بكثير جدا من تكلفة الثورات، لكن حذار من الإصلاح الوهمي الكاذب، فهو عامل تسريع للتحول من التذمر إلى الغضب، قد يمنح هذا «التخدير» بعض الوقت، لكن الزمن لا يحل المشاكل، وإنما يرحلها ويراكمها فتكبر حتى تصل لدرجة الانفجار.
[email protected]