في ظل الأوضاع الصعبة التي فرضتها الحرب في السودان، تتمنى حواء مصطفى، التي تعمل معلمة، العودة إلى مدينتها الجنينة، الواقعة في أقصى غرب البلاد قرب الحدود مع تشاد.
ولكن رغبتها تصطدم بمخاوف حقيقية، فقد أمضت أكثر من عام، في أحد مراكز إيواء النازحين بمدينة بورتسودان، شرقي السودان، بعدما أجبرها النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع على مغادرة منزلها.
"أرغب في لمّ شمل أسرتي"
تجلس حواء داخل خيمتها الصغيرة، التي منحتها لها إحدى المنظمات الإنسانية، وهي عاكفة على إعداد الطعام لأطفالها الأربعة.
ومنذ أن وصلت إلى بورتسودان، تحاول جاهدة التأقلم مع الظروف الجديدة، لكنها لا تكف عن التفكير في مدينتها التي تركتها خلفها. تعيش أسرتها داخل مدرسة تم تحويلها إلى مركز إيواء للنازحين، وهو واقع مشابه لما تعيشه العديد من العائلات التي اضطرت للنزوح إلى هذه المدينة، التي صارت بمثابة العاصمة الإدارية البديلة، واستقبلت العدد الأكبر من النازحين.
وتحكي حواء عن رحلة نزوحها القاسية، قائلة: "وصلت إلى هنا مع أطفالي منذ عام، لكن زوجي لم يكن محظوظًا مثلنا، فقد اضطر للبقاء هناك (في مدينة الجنينة).. قوات الدعم السريع التي تسيطر على المنطقة منعته من السفر، وكان يخشى أن يتم اعتقاله إن حاول الفرار معنا. .وهكذا انفصلنا، لنجد أنفسنا هنا في بورتسودان، بينما هو لا يزال هناك".
ورغم أن ظروف المعيشة في المركز ليست سيئة تمامًا، إذ تتوافر فيه بعض الخدمات الأساسية مثل الطعام والمياه، وتشهد المنطقة التي يوجد فيها استقرارًا أمنيًا مقارنة بأماكن أخرى، إلا أن حواء تشعر بأن حياتها بلغت حالة من الشلل.
وتقول بحزن: "الأطفال يذهبون إلى المدرسة، وكل شيء يبدو مستقرًا هنا، لكننا لا نزال نرغب في العودة إلى ديارنا في الجنينة. المشكلة أننا نخشى على حياتنا، فالطريق ليس آمنًا، والمسافة طويلة جدًا، كما أن الأوضاع في المدينة نفسها لا تزال مضطربة وغير مستقرة".
نزوح مستمر وأزمة إنسانية متفاقمة
مع اقتراب الحرب في السودان من دخول عامها الثالث، لا تزال المعارك مستمرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في ظل استخدام مختلف أنواع الأسلحة، من الطيران الحربي إلى الطائرات المُسيَّرة، والمدفعية الثقيلة.
وفي ظل هذا التصعيد، يدفع المدنيون الثمن الأكبر، إذ تزايدت أعداد النازحين بشكل غير مسبوق.
ووفقًا للأمم المتحدة، أدى استمرار القتال إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان، ليصل عدد الفارين من ديارهم إلى 11.5 مليون شخص، ما يجعل أزمة النزوح الداخلي في السودان، هي الأكبر على مستوى العالم في الوقت الراهن.
وينتشر هؤلاء النازحون في مراكز إيواء مؤقتة، بعضها يقع تحت سيطرة الجيش في مدن مثل القضارف وكسلا وبورتسودان، بينما تخضع مراكز أخرى لسيطرة قوات الدعم السريع، في أماكن مثل الفاشر والجنينة وزالنجي.
لكن معظم هذه المراكز تعاني من تدهور الخدمات الأساسية، حيث تفتقر إلى المياه النظيفة والكهرباء، كما تشهد انتشارًا للأمراض المعدية مثل الكوليرا وحمى الضنك، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية.
وأمام هذه الأزمة المتصاعدة، ناشد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، المجتمع الدولي لتوفير 6 مليارات دولار لمواجهة الاحتياجات الإنسانية في السودان هذا العام.
وأكد خلال مؤتمر عُقد على هامش قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، أن الأوضاع في السودان بلغت مستوى غير مسبوق من التدهور، محذرًا من عواقب وخيمة إذا لم يتم التحرك بشكل عاجل لتقديم المساعدات. كما دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، لضمان وصول المساعدات إلى المحتاجين، وتخفيف المعاناة عن المدنيين.
رحلات عودة رغم المخاطر
في الوقت الذي لا يزال فيه معظم النازحين غير قادرين على العودة إلى ديارهم بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة، تمكنت مئات العائلات من الرجوع إلى مناطقها، خاصة بعد أن استعادت قوات الجيش السيطرة على بعض المناطق، لا سيما في ولايات الجزيرة وسنار وأجزاء من العاصمة الخرطوم.
وإحدى أبرز هذه المناطق هي مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، التي كانت في السابق واحدة من أهم الملاذات للنازحين القادمين من الخرطوم. ولكن عندما اجتاحت قوات الدعم السريع المدينة في نوفمبر الماضي، اضطر السكان إلى الفرار مجددًا إلى مدن أخرى مثل كسلا والقضارف وبورتسودان.
إلا أن استعادة الجيش للمدينة مؤخرًا أحيا أمل بعض العائلات في العودة إلى ديارها، إذ انطلقت موجة عودة تدريجية، وبدأت الحياة تدب في أوصال المدينة مرة أخرى.
ومن بين هؤلاء العائدين، أسرة أماني كوكو، التي قررت العودة إلى منزلها في حي عووضة، بعد غياب طويل.
وتتحدث أماني عن شعورها بالفرح وهي تعود إلى منزلها الذي لطالما احتضن ذكرياتها، قائلة: "اضطررنا للنزوح إلى بورتسودان، وعشنا هناك لفترة طويلة في أحد مراكز الإيواء. لكن الآن عدنا، ونحن سعداء بذلك، رغم التحديات التي تواجهنا".
تحديات ما بعد العودة
ورغم عودة الحياة تدريجيًا إلى ود مدني وغيرها من المناطق التي استعادها الجيش، إلا أن هذه المدن لا تزال تفتقر إلى العديد من الخدمات الأساسية، حيث تعاني من انقطاع الكهرباء، وندرة مياه الشرب، إلى جانب المخاوف الأمنية التي تفرضها العصابات المسلحة، وغياب قوات الشرطة في بعض الأحياء السكنية.
لكن، رغم هذه الصعوبات، تؤكد أماني أنها وعائلتها مصممون على البقاء في مدينتهم، قائلة: "الحياة هنا ليست سهلة، لا توجد كهرباء، ونواجه صعوبة في الحصول على مياه الشرب، كما أن هناك مخاطر بسبب مخلفات الحرب التي تهدد حياة الأطفال والكبار. ومع ذلك، نحن سعداء بالعودة إلى منزلنا، ولن نغادر مرة أخرى".
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن مئات العائلات تمكنت بالفعل من العودة إلى مناطقها الأصلية في العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة وسنار، وذلك بعد استعادة الجيش السيطرة عليها.
ومع ذلك، يظل هذا الرقم ضئيلًا مقارنة بإجمالي عدد النازحين، الذي يُقدَّر بنحو 11 مليون شخص ما زالوا عالقين في مخيمات النزوح. وتوجد بعض هذه المخيمات على خطوط القتال الرئيسية، لا سيما في شمال دارفور، حيث تدور معارك عنيفة بين الجيش والفصائل المتحالفة معه من جهة، وقوات الدعم السريع من جهة أخرى، مما يجعل عودة هؤلاء النازحين أمرًا بالغ الصعوبة.