اليوم مر شهران ونصف على بقائي في المنزل منذ بداية إجراءات التباعد الاجتماعي والعمل من البيت.
لا حقائب مقفلة استعداداً لرحلة عمل جديدة، ولا سباق مع الوقت لترتيب كامل المواعيد والرحلات والاستعدادات اللوجستية قبل التصوير، أو تحضير كاميرات متشوقة لتوثيق لمحات من الوجوه والقصص حول العالم.
سيمر المزيد من الوقت قبل أن أسمع صوت دحرجة الحقائب في أروقة المطارات والإعلانات المتكررة بصوت أنثوي صافي ينبهنا لضرورة التأكد من وجود حقائبنا معنا طوال الوقت لأجل السلامة العامة. وسيسكن قليلاً ذلك الشغف والفضول الذي يسبق التوجه لمدينة جديدة ولقاء أشخاص آخرين من ثقافات مختلفة.
أزمة كورونا فاجأتني كما فعلت بالملايين حول العالم، وبينما كنت وفريق البرنامج نستعد لبداية موسم جديد ومختلف من "فورتك" بعد توقف دام لأشهر، وجدنا أنفسنا في ظروف استثنائية وتغييرات جذرية في أسلوب حياتنا وعملنا.
في البداية اعتبرتها فرصتي لعيش حياة يومية "عادية" في بيتي ومع عائلتي، في ظروف أبعد ما تكون عن العادي والمألوف. بدأت بالتدريج أتأقلم مع حياتي الجديدة "المستقرة" لوجستياً والمشتتة الى حد ما فكرياً.
أنا خائفة من أصغر الكائنات، لا يمكن أن أراه، ولا أن أحس به، لكن يجب أن أفعل كل ما بوسعي لحماية نفسي والآخرين منه.
بدأت العزلة.
علاقتي بفكرة العزلة بحد ذاتها كانت خارجة عن كل ما تصورته أو قرأت عنه. إنها ليست هذه الساعات الطويلة في التأمل ومراجعة الذات وما إلى ذلك من الصور الأدبية الممتعة. فالبرغم من أني لم أقابل اي شخص وجها لوجه لأكثر من شهرين، كنت أعرف تماماً ماذا يفعل الكثير من أصدقائي وزملائي بشكلٍ يومي.
من منهم قام بزيارات متكررة للثلاجة بعد منتصف الليل، ومن يمارس الرياضة يومياً، ماذا طبخوا وأكلوا ومن غسل الأطباقكم اجتماع حضروا عبر تقنية (Zoom)، ومن اكتشف في نفسه فجأة حب الزراعة و الاعتناء بالزهور.
أتابع حياة تبدو غنية من نافذة هاتفي لكنالصمت بقي مطبقاً على الحي الذي أعيش فيه لأسابيع طويلة وكأنالحياة توقفت في رهبة الموت الذي عصف بعالمنا.
هل كان يمكن أن أتصور نفسي في ذات الظروف لكن قبل عشرين سنة؟
ماذا لو كان عليَّ انتظار وقت طويل للاتصال بالانترنت المترافق بصوت أزيز متقطع ومزعج لل modem فقط لأتمكن من إرسال رسالة الكترونية باهتة بدلاً من كل تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي ومافيها من ألوان وصور تفيض بها هواتفنا؟
لو كنا في ذلك الوقت لم أكن لأتمكن من اخباركم اليوم أننا، أنا وفريق العمل، انتهينا للتو من إعداد حلقة خاصة من "فورتك" الذي يعود بعد انقطاع دام أشهر طويلة.
من داخل جدران منازلنا، وعبر هواتفنا وأجهزة اللابتوب بدأنا باستكشاف هذا الواقع الجديد الذي فرض على كل أشكال علاقاتنا التواصل الافتراضي لحين عودة الحياة إلى طبيعتها. وسافرت أنا ونسيم وأنيس عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلى الولايات المتحدة الأميركية واسبانيا وايطاليا وسويسرا للقاء ضيوف كنا سنخلف موعدنا معهم لولا تقنيات اليوم.
الحلقة صورت بشكل كامل باستخدام هواتفنا الذكية والكمبيوتر المحمول، وكل واحد فينا ابتكر طريقته الخاصة للتأقلم مع غياب أحد أهم عناصر فرق التصوير التلفزيوني؛ و هو المصور. فالمصور غاب وغابت معه كامل مجموعة الكاميرات والإضاءة والميكرفونات التي نحملها معنا لكل موقع تصوير. غابت احتياجات احترافية وحلت محلها حلول شخصية، وتعلمنا مزج الأمرين معاً.
فمثلاً نحن نستخدم التريبود (مثبت الهاتف) الآن حين نتحدث مع الأهل لأن المكالمات صارت طويلة ومكررة بل وأساسية، ذات الشيء نستخدمه لتسجيل مقابلة تعذر حصولها، طبعاً مع التفكير بكل التفاصيل المتعلقة بالإضاءة والألوان والخلفية الأفضل. وبعضنا لجأ لاستخدام الوسائد وخزانة الملابس لعزل الميكرفون أثناء التسجيل الصوتي وتجنب سماع الصدى.
ستلحظون بعض هذه التفاصيل في حلقتنا الجديدة، وفيها سيأخذنا نسيم الى عالم الفضاء مع أول رائدة فضاء أم، سبقتنا بسنوات كثيرة في رحلة التأقلم مع العزلة استعداداً للحياة في كوكب آخر ضمن ظروف لا تختلف كثيرا عما نعيشه اليوم. بينما أنا رافقت شاب وفتاة في برشلونة وميلانو استخدما هواتفهما الذكية وتقنيات بسيطة جداً لمحاولة التغلب على الآثار السلبية التي خلفها عليهم التباعد الاجتماعي. أما أنيس فقد تابع آخر المستجدات حول إيجاد لقاح مناسب لكوفيد-١٩ ومدى تأثير انتشاره على الحياة الجامعية وقطاع التعليم.
هذه الحلقة صوُّرت بشكل استثنائي ضمن ظروف فرضت علينا وعليكم، لكن البرنامج سيتابع بعدها بصورة مختلفة عما قدمناه من قبل. وسنأخذكم كل أسبوع في رحلة مختلفة نقترب فيها أكثر من الناس وقصصهم الإنسانية ودور التقنية في حياتهم. كنا قابلنا هؤلاء الأشخاص في العالم الحقيقي، وليس الافتراضي، قبل أشهر، ورافقناهم في رحلاتهم وحكاياتهم.
أما حلقة "فورتك" الخاصة حول أزمة كورونا تأتيكم هذا السبت الساعة الخامسة والنصف بتوقيت غرينتش عبر شاشة بي بي سي عربي، وستعاد على مدار الأسبوع.