منطقة "جزر الخليج" التابعة لمقاطعة "كولومبيا البريطانية" في كندا، تمثل شاهدا على حقبة غادرت فيها الأسرة الملكية في أرخبيل جزر هاواي، موطنها ذا الطابع الاستوائي الواقع في المحيط الهادي، خلال فترة من الصراعات الداخلية، لتلوذ بتلك الجزر الكندية النائية.
في جزيرة "بورتلاند" غير المأهولة، وقبالة مسار مهده مرور الحيوانات المتكرر عليه في قلب إحدى الغابات، كان البستان ينتظرني. ورغم أن أشجاره كانت منسية، بل وتغطيها الطحالب كذلك، فقد كانت ثمارها من التفاح ناضرة على نحو مدهش.
وبدا مذاقها مُشبعا بقدر من الحنين إلى الماضي، ما جعلها مختلفة تماما عن أي تفاح قد تجده الآن على أرفف المتاجر. كان لهذا البستان قصة ما، وقد بات بمرور الوقت، مهددا بالاندثار، بفعل زحف الغابة عليه، وتنامي أشجارها.
غير أنه تبين أن الزمن يقف في صف هذا البستان العتيق. فعندما عدت في سبتمبر/أيلول الماضي إلى هذه الجزيرة التابعة لمقاطعة "كولومبيا البريطانية" الكندية بعد 15 عاما كاملة من الغياب، وجدت الأرض المحيطة بالبستان، وقد أُخليت تماما من الحشائش والنباتات.
ففي عام 2003، أصبحت هذه الجزيرة بمساراتها المتعرجة، ومنحدراتها المؤلفة من الحجر الرملي، وشواطئها التي تتناثر عليها مخلفات من الأصداف وعظام الحيوانات، جزءا من محمية طبيعية تضم منطقة جزر الخليج. وتضم هذه المحمية مترامية الأطراف، التي تُعرف باسم "المحمية الوطنية لجزر الخليج" مساحات من الأرض تتوزع على 15 جزيرة، بجانب عدد لا حصر له من الجزر الصغيرة والشعاب المرجانية، الواقعة في بحر ساليش.
وعلى مدار السنوات الـ 15 التالية، درس خبراء كنديون في الآثار والثقافة 17 بستانا مهجورا في ثمانٍ من هذه الجزر، وذلك للتعرف على جانب من تفاصيل حياة المستوطنين الأوائل لهذه المنطقة.
ومن بين هؤلاء جون بالاو، الذي تقول لافتة جديدة وُضِعَت في جزيرة "بورتلاند"، إنه كان من بين من زرعوا الفواكه في تلك المنطقة. وقد قَدِمَ ذلك الرجل إلى هذه الجزر، جنبا إلى جنب مع مئات من سكان هاواي، ممن كانوا من بين أوائل من عاشوا فيها.
وتتألف منطقة "جزر الخليج"، من عشرات من الجزر المتناثرة بين فانكوفر وجزيرة فانكوفر الجنوبية. ولآلاف السنين، ظلت هذه المنطقة، التي يسودها مناخ معتدل وتحفل بمناظر طبيعية ذات طابع ريفي، جزءا من ساحل بحر ساليش.
وقد وصل الإسبان إليها عام 1791، قبل أن يظهر الملاح الإنجليزي الشهير الكابتن جورج فانكوفر في المشهد، مُعلنا سيادة التاج البريطاني عليها. ولم يمض وقت طويل، حتى بدأ المستوطنون الأوائل في الوصول إلى هناك، قادمين من شتى بقاع العالم. الكثير من هؤلاء جاءوا من هاواي، للعيش مع أمريكيين ذوي بشرة سوداء، وبرتغاليين، ويابانيين، ومواطنين آخرين من شرق أوروبا.
ولأن التاريخ يمكن أن يصبح غامضا ومبهما في بعض الأحيان، فقد كان من الممكن أن تصير هذه المنطقة إنجليزية الطابع، وأن يعتقد الناس أنها كانت بقعة يقطنها أشخاص من بيض البشرة فحسب، كما قالت لي عبر الهاتف، جين بارمان المؤرخة المتخصصة في تاريخ منطقة "كولومبيا البريطانية"، مشيرة إلى أن "الزمن يمحو القصص، التي لا تتسق مع السردية المفضلة" للبعض.
لكن خلال زيارتي إلى تلك المنطقة، بدأت أقرأ بشكل أكبر عن المستوطنين الأوائل الذين قَدِموا إليها من هاواي، وعُرِفوا في بعض الأحيان بـ "كاناكاس"، نسبة إلى مفردة بلغة هاواي تعني "الشخص".
وبفضل قراءاتي في هذا الشأن، عَلِمت أن هاواي كانت في أواخر القرن الثامن عشر، مسرحا لصراع داخلي، أجبر سكانها الأصليين، ومن بينهم أفراد الأسرة المالكة، على العمل في تجارة الفراء عبر البحار، بعدما فقدوا حقوقهم واستقلاليتهم كذلك. وكان غالبية هؤلاء من الرجال.
وهكذا وجد مئات، إن لم يكن آلاف، من السكان الأصليين لهاواي طريقهم إلى الساحل الغربي لكندا، بعدما التحقوا بالعمل في شركة "هدسون باي".
وبحلول عام 1851، أفادت بعض التقديرات، بأن هؤلاء السكان شكلّوا نصف عدد من استوطنوا منطقة "جزر الخليج". وفي أواخر العقد نفسه، وبالتزامن مع تعزيز وتقوية الحدود بين الولايات المتحدة والمناطق الشمالية المتاخمة لها، والتي أصبحت كندا الآن، تحرك الكثير من المستوطنين القادمين من هاواي، ممن كانوا يقطنون المناطق الجنوبية إلى الشمال، حيث مُنحوا الجنسية البريطانية.
وبمجرد وصولهم إلى "كولومبيا البريطانية"، أصبح هؤلاء القادمون الجدد، أصحاب أراضٍ ومزارعين وصيادين، قبل أن يتزاوجوا تدريجيا مع أبناء السكان الأصليين لكندا، أو المنتمين لمجموعات أخرى من المهاجرين، ما أدى إلى أن تذوب هويتهم الأصلية بشكل كامل تقريبا.
لكن قصة هؤلاء الأشخاص، عادت إلى الحياة من جديد، خلال الفترة التي شهدت إجراء دراسات علمية، في المناطق التي تحتوي على البساتين القديمة، وهو ما قاد إلى أن يستعيد الكنديون الذين تعود أصولهم إلى هاواي، تراثهم وتاريخهم.
وبفعل الفضول الذي غمرني لمعرفة السبب الذي أدى إلى تلاشي هذا الجزء من التاريخ من الأذهان، والتعرف كذلك على الكيفية التي أُعيد بها اكتشافه، طرحت أسئلتي في هذا الصدد على المؤرخة بارمان، التي عكفت طيلة مسيرتها العلمية، على البحث عن الوقائع التاريخية، التي استُبِعَدت بشكل أو بآخر من التاريخ. وردا على أسئلتي، قالت بارمان: "تعرفت على هذه القصة بالصدفة خلال أحد الحفلات". ففي أواخر الثمانينيات، قال لها مسؤول محلي يُدعى ميل كوفلير، إنه يعتقد بأن أسلافه ينتمون إلى السكان الأصليين للمنطقة، وطلب منها مساعدته، لاكتشاف مزيد من المعلومات في هذا الشأن.
وبدأت بارمان بحثها انطلاقا من نعي مؤلف من سطرين لا أكثر، لتعلم أن لـ "كوفلير"، جدة بعيدة تُدعى ماريا ماهوي، وهي سيدة وُلِدَت في جزيرة فانكوفر، في نحو عام 1855، لأب من هاواي وسيدة من سكان البلد الأصليين. وقد أثارت قصة ماهوي اهتمام بارمان بشكل كبير. فـ "حياتها العادية تمثل إضافة إلى تاريخ التنوع العرقي لـ `كولومبيا البريطانية`، وهو أمر تراه هذه المؤرخة، أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى.
وتقول بارمان في هذا الصدد: "القصص التي يرويها الناس عن هويتهم، لا تكون مكتملة. وما يتكرر منها على لسان المرء، يتمثل في الأجزاء التي إما يكون مترددا بشأنها، أو فخورا بها". وترى المؤرخة أن ذلك يفسر السبب في أن كثيرا من سكان "كولومبيا البريطانية" الذين تحدثتْ معهم، وجاء أسلافهم من هاواي، قالوا إن لديهم أصولا ملكية، إذ أن هذه قصة يشعر هؤلاء بالفخر بها.
وفي الوقت الذي قد يُرجح فيه أن يكون لهؤلاء الناس أصل ملكي بالفعل، في ضوء أن هناك أفرادا ينتمون للأسرة الملكية في هاواي قَدِموا بالقطع إلى "كولومبيا البريطانية"، فمن الصعب تتبع أصولهم وسيرة حياتهم.
ومن بين أسباب ذلك، وجود صعوبات تكتنف العثور على سجلات مفصلة وواضحة تتضمن بيانات سكان هاواي، الذين جاءوا لاستيطان الساحل الغربي لكندا. فالقادمون الجدد منهم، كانوا يُعرفون عادة باسم واحد أو بمجرد لقب، لا بالاسم الكامل. وحتى عندما كان يُسجل الاسم الأول واللقب العائلي لشخص ما، فإن تهجئتهما كانت تتغير غالبا بمرور الوقت. ولذا بات من الصعب تتبع مسار حياة الأشخاص المنتمين للأسرة المالكة في هاواي، ممن استوطنوا "كولومبيا البريطانية".
وترى بارمان أن قصص الأشخاص العاديين، الذين عاشوا في هذه المنطقة، تنطوي على أهمية أكبر من نظيرتها التي تخص أشخاصا من سلالة ملكية. وفي كتابها الذي صدر عام 2004 بعنوان "ماريا ماهوي القاطنة بـ `الجزر`"، كتبت تقول إن "تأمل حياة ماريا ماهوي، يحدو بنا إلى إدراك أن لنا، لكل شخص منّا، أهمية.
فالقصص الخاصة بالحياة اليومية، مهمة لذاكرتنا الجمعية كمجتمع". اللافت أن التعرف على تفاصيل قصة حياة ماريا ماهوي، أسهم في نهاية المطاف، في المساعدة على تشكيل ملامح جزء من إحدى المحميات الطبيعية في تلك المنطقة.
وتشير المعلومات المتوافرة حول حياة ماهوي، إلى أنها قضت فترة شبابها المبكر مع زوجها الأول قبطان البحر الأمريكي آبيل دوغلاس، وذلك على متن مركب لصيد الحيتان يبلغ طوله 40 قدما.
ونظرا لأنه كان لديهما أطفال، استقرت الأسرة، على جزيرة "سولت سبرينغ"، خاصة وأن عدد أفرادها كان آخذا في التزايد. في تلك الفترة، كان الكثير من الأسر القادمة من هاواي، قد شكل تجمعا سكانيا على الساحل الغربي، الذي يطل على جزر رَسل وبورتلاند وكول.
على أي حال، انتهت الزيجة الأولى لماهوي، تاركة إياها أماً عزباء لديها سبعة أطفال. وتزوجت بعد ذلك، شخصا يُدعى جورج فيشر، كان ثمرة زواج الثري الإنجليزي إدوارد فيشر وامرأة من السكان الأصليين لمنطقة كاويكين بـ "كولومبيا البريطانية". ورُزِق الزوجان الجديدان بستة أطفال آخرين، وشيّدا منزلهما على أرض تبلغ مساحتها 139 فدانا قرب منطقة فلفورد هاربر، الواقعة في الطرف الجنوبي لـ "سولت سبرينغ".
وفي عام 1902 تغير هذا الوضع، حينما ترك مزارع للخضروات والفواكه يُدعى ويليام هاوميا، كانت أصوله تعود إلى هاواي، قطعة أرض إلى ماهوي، تبلغ مساحتها 40 فدانا، وتقع على جزيرة رَسل.
ولأن هذه القطعة كانت أجود من تلك المملوكة للأسرة في "سولت سبرينغ"، تقرر الانتقال للإقامة فيها. وفي غضون سنوات قليلة، شُيّد منزل هناك، وتوسع بستان الفاكهة، ليتألف من ستة إلى ثمانية صفوف، يُزرع فيها أربعة أنواع من التفاح وثلاثة أنواع من البرقوق.
كما ضمت المزروعات أشجار التوت، فضلا عن تربية الأسرة للدجاج والأغنام. وظلت هذه الأسرة مقيمة في المنزل حتى عام 1959، واستمتع أبناؤها بفطائر التفاح والفواكه المجففة، جنبا إلى جنب مع أنواع مختلفة من حساء الأسماك والمحار.
ولأن كثيرا مما نعتقد أنه يشكل جزءا من ثقافة هاواي، يرتبط عادة بالمرأة، سواء كان رقصة الهولا أو تحضير الأطعمة التقليدية وغيرهما، فلم تصل هذه الجوانب الثقافية إلى "كولومبيا البريطانية" مع المهاجرين الأوائل من الرجال.
لكن القادمين من هاواي، تركوا بصمتهم رغم ذلك بطرق أخرى. فقد قدموا الأرض والبنائين المتطوعين اللازمين لتشييد كنيسة القديس بولس الكاثوليكية في فلفورد هاربر. كما أسهموا في ابتكار اللغة التي استُخْدِمَت محليا في التجارة في ذلك الوقت، وتضمنت الكثير من المفردات المأخوذة من لغة سكان هاواي.
وانعكس الإرث الثقافي كذلك، على اختيار هؤلاء الأشخاص، للأماكن التي فضلوا العيش فيها، إذ آثر غالبيتهم الاستقرار في الجزر التي مَكَنَتهم تضاريسها، من مواصلة ممارسة أنشطة الزراعة وصيد الأسماك كما اعتادوا من قبل.
أما بالنسبة لماهوي، فقد تركت للأجيال القادمة، المنزل الذي أقامت فيه أسرتها. ويكشف هذا المنزل الصغير، بمداخله الصغيرة أيضا، عن ضآلة البنى الجسدية لسكانه الأصليين، وهو الأمر الذي أثار فضول من أقاموا فيه لاحقا.
وبمرور الوقت، وعندما تكشف المزيد عن التاريخ الفريد لجزيرة رَسل، اقتنت هيئة معنية بالتراث البحري في المحيط الهادي المنزل في عام 1997. وبعد ذلك بخمس سنوات، اعتُبِرَ المنزل مميزا بما يكفي من الناحية الثقافية، ليكون جزءا من "المحمية الوطنية لـ `جزر الخليج`.
وقد زرت جزيرة رَسل في غمار رحلة تعرفي على الإرث الثقافي المرتبط بهاواي، في منطقة "جزر الخليج". وهناك مضيت على درب رائع يمضي عبر إحدى الغابات، وأطللت على الشواطئ التي أقام عليها السكان الأصليون لتلك المنطقة، مزارع لتربية المحار.
بعد ذلك، حرصت على ألا أطأ زهورا برية نمت فوق نتوءات صخرية وجدتها في طريقي، وذلك خلال مضيي قدما إلى داخل غابة، قادتني إلى المنزل الصغير، الذي عاشت فيه يوما أسرة ماريا ماهوي.
وفي هذه الأيام، يسمح سكان المنزل المنحدرون من نسلها للزوار بزيارة المكان، وذلك للتعرف على جوانب من تاريخ أسرتهم. ويستمع هؤلاء الزوار خلال تجوالهم في المنزل، إلى ذكريات قاطنيه، ويطلّعون على قصص تتناول حياة ماهوي على الجزيرة.
أما بجانب المنزل، فلا تزال هناك بقايا لبستان ضخم كان قائما في هذا المكان يوما ما. عندما اقتربت مما تبقى من البستان، وجدت لافتة تدعوني لقطف بعض ثمار التفاح صغيرة الحجم. كانت مقرمشة ولاذعة المذاق، وتشابهت في طعمها، مع تلك الثمار التي التهمتها في جزيرة "بورتلاند" قبل سنوات طويلة.
رغم ذلك، كان الطعم هذه المرة أحلى. وفي وقت لاحق، طهيت التفاح لإعداد طبق حلو يسمى "فطيرة فتات التفاح"، عندها تساءلت عما إذا كانت حلاوته الإضافية، تعود إلى أنني صرت أعلم تاريخ هذه المنطقة التي اعتبرها موطني، وبِتُ أفهم بشكل أكبر كيف أسهمت الثقافات المتنوعة في بنائها.
كما تساءلت أيضا في تلك اللحظة، عما إذا كانت النكهة الغنية للفطيرة، تعود إلى أنني تعرفت في ختام رحلتي هذه، على اسم سيدة ذات أهمية في تاريخ المنطقة، مثل ماريا ماهوي.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Travel