حتى بداية هذا العام، كانت آلي فاندينبيرغواز، من ركاب الحافلات المنتظمين. فكل صباح بعد الاستيقاظ والاستعداد للذهاب إلى العمل، تستقل الحافلة رقم 15 من قرب شقتها في حي سيتي بارك في مدينة دنفر في ولاية كولورادو الأمريكية، إلى مكتبها في المؤسسة المالية التي تعمل بها ضمن مجمع سيفيك سنتر بلازا الصاخب.
ولأن المسافة لا تتعدى أربعة كيلومترات، اعتادت فاندينبيرغواز، مشرفة الاستثمارات، ترك سيارتها حيث تسكن، تجنباً لتوتر القيادة وسط المدينة في ساعة الذروة، كما يوفر عليها ذلك 200 دولار شهرياً تكلفة ركن السيارة. لكن انتشار وباء كورونا اضطرها إلى تغيير خطة تنقلها السهلة.
تقول فاندينبيرغواز: "عندما طلبوا منا في المؤسسة العودة إلى الدوام في المكتب في شهر مايو/أيار، كانت الحافلة التي أستقلها قد خفّضت تواتر خدمتها، وأصبح العدد الأقصى للركاب في كل حافلة 15 شخصاً. قبل انتشار الوباء، كانت الحافلة تصل إلى الموقف القريب مني وليس فيها سوى بعض الأماكن للوقوف، لذلك توقعت أنه سيتعين علي الانتظار ساعة أو ساعتين بينما الحافلات تأتي وتذهب، ولا أتمكن من ركوب إحداها لأنها لا تتسع لمزيد من الركاب".
وأضيف إلى ما سبق ما كانت تسمعه عن عدم تقيد الركاب بارتداء الكمامة وتعليمات التباعد الاجتماعي، ما اضطرها إلى الذهاب إلى العمل بسيارتها وتحمل تكاليف ذلك.
وليست آلي فاندينبيرغواز، الوحيدة التي اضطرت إلى تغيير خطة تنقلها، فقد انخفض عدد ركاب وسائل المواصلات العامة إلى أدنى مستوياته التاريخية في الأمريكتين وأوروبا، بما في ذلك مترو أنفاق لندن ومترو أنفاق مدينة نيويورك.
وتشير أحدث التقارير إلى أنه وبرغم الإقبال الواضح على ركوب الدراجات أو المشي بعد تفشي الوباء، فكثير من الناس ينتظرون بفارغ الصبر العودة إلى قيادة سياراتهم، بل وقد يزيد استخدامهم لها بعد انتهاء الجائحة.
ويحذر واضعو خطط أنظمة النقل من أن العودة السريعة إلى الراحة التي توفرها السيارات، قد تمهد الطريق إلى نوع من الجمود في فترة ما بعد الوباء من شأنه إعاقة الانتعاش الاقتصادي في المدن عبر أنحاء العالم.
وحسب تقرير صدر في نوفمبر/تشرين الثاني عن شركة "آر إيه سي" لخدمات السيارات، فربما أعاد الوباء المملكة المتحدة عقوداً إلى الوراء فيما يتعلق باستخدام السيارات مقابل وسائل النقل العام.
ومن بين 3,000 مالك سيارة شملهم الاستطلاع، اعتبر 68 في المئة منهم أن السيارة ضرورية للقيام بالمهام اليومية، مقارنة بنسبة 54 في المئة العام الماضي.
ووصل الإحجام عن استخدام وسائل النقل العام إلى أعلى مستوياته منذ 18 عاماً. وقال حوالي 54 في المئة من المشاركين في الاستطلاع إن السلامة تأتي في المقام الأول، في حين وافق 43 في المئة فقط على تقليل استخدام سياراتهم إذا تم تحسين وسائل النقل العام، وهو أدنى رقم منذ عام 2002.
ويقول رود دينيس، المتحدث باسم قسم الاستطلاعات في الشركة: "انتشار الوباء جعل أصحاب السيارات يدركون أن عليهم الاعتماد عليها أكثر من أي وقت مضى، لكن السؤال الأهم الآن هو ما إذا كان هذا التغيير سيكون دائماً، أم لا".
وقد تكون التوجهات الجديدة لدى جيل ما بعد الألفية (مواليد ما بعد منتصف عقد التسعينات) الذي يعتبر الأقل اهتماماً بامتلاك السيارات، استقراء مفيداً للوضع.
ويقول موقع "أوتو تريدر"، وهو سوق رقمية للسيارات، إن 15 في المئة من عملاء موقعه على الإنترنت في المملكة المتحدة بين شهري يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول كانوا من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، مقارنة بستة في المئة فقط خلال نفس الفترة من عام 2019.
ويقول روري ريد، مدير هذا الموقع على "يوتيوب" في المملكة المتحدة، إن "الوباء غير آراء الشباب بشأن امتلاك السيارات، وجعلهم يبدأون القيادة في وقت مبكر عن المعتاد، انطلاقاً من رغبتهم بالاعتماد بشكل أقل على وسائل المواصلات العامة ومحاولتهم تقليل مخاطر انتشار فيروس كورونا".
وربما من المستغرب أن المخاوف بشأن المخاطر البيئية المحتملة لزيادة استخدام السيارات، ليست مصدر قلق كبير بالنسبة لكثيرين حول العالم.
وأظهر استطلاع لمشروع يوغوف كامبريدج للعولمة شمل 26,000 شخص من 25 دولة، أن الغالبية العظمى منهم تقر بمسؤولية البشر عن تغير المناخ.
ومع ذلك، وجد الاستطلاع، الذي أجرى بين شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، أن غالبية المشاركين يرغبون بقيادة السيارات في المستقبل أكثر مما فعلوا في الماضي. ففي البرازيل مثلاً، حيث أكد 88 في المئة من المشاركين إيمانهم بأن تغيرات المناخ حصلت بسبب النشاط البشري، قال حوالي 60 في المئة من هؤلاء الأشخاص إنهم بعد الوباء سيستخدمون سياراتهم أكثر من ذي قبل، بينما قال 12 في المئة فقط إنهم سيستخدمونها أقل.
كما قال أكثر من 40 في المئة من المشاركين في الولايات المتحدة وأستراليا إنهم سيعمدون إلى استخدام السيارات بشكل أكبر بعد الوباء مقارنة بـ 10 في المئة فقط قالوا إنهم سيستخدمونها بشكل أقل.
وتشير الأرقام إلى أن حركة السيارات في بعض الأماكن تجاوزت بالفعل المستويات التي كانت عليها قبل الوباء. وقد وصلت في باريس وضواحيها إلى مستويات قياسية في أواخر أكتوبر/تشرين الأول قبل الإغلاق العام الثاني، وامتدت الاختناقات المرورية على مسافة 430 ميلاً.
كما زادت درجة الازدحام على الطرقات المحيطة بلندن بمقدار الخمس تقريباً عما كانت عليه العام الماضي.
أما في مدينة بيرث في أستراليا فحركة المرور الآن أشد ازدحاماً مما كانت عليه قبل الجائحة بأكثر من 18 في المئة.
وأعلن العديد من الرؤساء والقادة حول العالم، ومن بينهم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، خططاً صارمة لإنعاش الاقتصاد في مرحلة ما بعد الوباء، تعتمد مزيداً من الاستثمار في الطاقة الخضراء صديقة البيئة.
ومع ذلك، تشير هذه الأرقام إلى أن الأهداف التي حددها اتفاق باريس للمناخ تبدو اليوم مهددة بالفعل.
وكان القلق بخصوص سلامة التنقل بالمواصلات العامة أحد العوامل الرئيسية التي جعلت الناس يفضلون استخدام سياراتهم خلال الأشهر الأخيرة.
ومع ذلك، أظهرت نتائج دراسات أجريت في فرنسا واليابان والنمسا بخصوص انتشار العدوى خلال الموجة الأولى للجائحة، وجود القليل من الأدلة التي تربط بين تفشي فيروس كورونا وبين استخدام الحافلات أو القطارات.
وعلى العكس، أظهرت هذه الدراسات أن العدوى في وسائل النقل العام كانت نادرة جداً في الواقع في ظل اتخاذ تدابير مثل التباعد الاجتماعي والالتزام بارتداء الأقنعة.
ومع ذلك، كان المسؤولون عن قطاعات النقل العام في معظم دول العالم يعملون على مدار الساعة لوضع تدابير سلامة جديدة معززة لإقناع الركاب بالعودة إلى المواصلات العامة.
وتشمل هذه التدابير تخفيض عدد الركاب، وتعزيز تدابير النظافة الصحية والتعقيم والاستفادة من الابتكارات التكنولوجية. وكان البند الأخير هو محور الاهتمام الرئيسي لهيئة النقل الحضري في نيويورك، التي نقلت عبر المواصلات العامة أكثر مليار شخص في عام 2019. أما في هذا العام فانخفض المعدل السنوي لاستخدام المواصلات العامة بنسبة 93 في المئة، في حين ارتفعت معدلات تسجيل ملكية سيارات جديدة في المدينة بنسبة 18 في المئة عما كانت عليه عام 2019.
وأصدرت شراكة "ترانزيت إنوفيشن"، وهي مبادرة بين القطاعين العام والخاص من هيئة النقل الحضري في نيويورك بشراكة غير ربحية مع مدينة نيويورك، خريطة تفاعلية حيّة لمترو الأنفاق في أكتوبر/تشرين الأول للتخلص من الخرائط الورقية وكتيبات التعليمات وتسهيل التنقل.
كما أطلقت تحدياً للاستجابة لانتشار فيروس كورونا في شهر يوليو/تموز، والذي تلقى ما يقارب 200 فكرة من الابتكارات، التي يمكن أن ترفع ثقة العملاء من خلال جعل أداء وسائل النقل أكثر أماناً وحماية للصحة.
وتقوم ثماني شركات حالياً بعرض اقتراحاتها، مثل حلول لتنقية الهواء، والمصابيح الثنائية الباعثة للضوء المضادة للميكروبات، وتوفير بيانات آنية تفاعلية لإظهار حالة ازدحام الركاب طوال اليوم.
وتقول المديرة التنفيذية راشيل هاوت: "من المهم للغاية تمكين وكالات النقل من تجربة هذه الحلول الجديدة وفق نهج استراتيجي والمضي قدماً نحو الأمام. ليست هناك عودة إلى ما كانت عليه الأمور سابقاً، لذا، نحن بحاجة إلى إطار عمل جديد تماماً".
ونتيجة لهذه التجارب والمبادرات وإضافة إلى الرسائل القوية التي تبثها الحملات الصحية وتشجيع ارتداء الأقنعة، ارتفع عدد الركاب في مترو الأنفاق بشكل مطرد. لكنه لا يزال أقل من العام الماضي بنحو 65 في المئة.
ومثل العديد من أنظمة النقل حول العالم، تواجه هيئة النقل الحضري في نيويورك الآن أزمة مالية بسبب الخسارة الهائلة في عائدات التشغيل.
وتقول كيت لاينغ، مديرة برنامج إدارة النقل في مجموعة المدن القيادية لحماية المناخ "سي 40"، إن أنظمة النقل ستضطر على الأرجح إلى خفض عملياتها ما لم تتمكن من حل المشاكل المالية.
وتضيف: "من شبه المؤكد أنهم سيجدون أنفسهم مضطرين إلى تخفيض خدماتهم في المناطق التي لا يحصلون فيها على عوائد مضمونة، وسنرى نتيجة لذلك انخفاضاً في مستويات الرفاهية وإمكانية التنقل والمساواة".
وكانت نتائج دراسة أجريت قبل انتشار الوباء وقام بها مركز بيو للأبحاث أظهرت أن شخصاً من بين كل عشرة أشخاص في الولايات المتحدة يستخدم المواصلات العامة بشكل يومي أو أسبوعي، خاصة في مدن نيويورك ولوس أنجليس وشيكاغو وسان فرانسيسكو وواشنطن العاصمة.
ومن بين سكان المناطق الحضرية، أفاد 34 في المئة من السكان السود و27 في المئة من اللاتينيين أنهم يستخدمون وسائل النقل العام، مقارنة بـ 14 في المئة فقط من السكان البيض، ما يعني أن تخفيض خدمات المواصلات العامة سيؤثر على الأشخاص ذوي البشرة الملونة بشكل أكبر.
وسيكون لاستخدام مزيد من الأشخاص سياراتهم بدل وسائل النقل العام، آثار تتعدى الإضرار بالبيئة والبنية التحتية، لتؤدي إلى جمود في الاقتصاد وإعاقة حركة العمال وتدفق السلع. وبالتالي فإن المدن التي تعتبر الاستثمار في النقل العام ركيزة أساسية لانتعاشها الاقتصادي، وتستمر في ضخ الأموال في أنظمة النقل بعد تلاشي الوباء، من المرجح أن تحقق نتائج أفضل من تلك التي لا تتبنى ذلك، كما تقول لاينغ.
وتضيف أنه سيكون من الضروري أيضاً إيجاد طرق لتحفيز الناس على استخدام وسائل المواصلات العامة في عام 2021، بما أن قرار استخدامها أو عدمه يعتمد عادة على الوقت والكلفة.
وتشرح ذلك قائلة: "الجميع يحبون قيادة السيارة، إلا حين يكون جميع الناس يقودون سياراتهم. وعندما نختار أن نستقل الحافلة، فذلك لأن الذهاب في سيارتك مزعج للغاية، فلا مكان لركنها، أو لأن كلفة الركن باهظة، أو لأنك لا تستطيع شراء سيارة في المقام الأول".
ولتفادي الجمود الاقتصادي المتوقع في مرحلة ما بعد الجائحة، كما تقول لاينغ، يتعين على المدن اتخاذ تدابير تشجع الناس على اتخاذ الخيار الجيد، وهو استخدام المواصلات العامة، وذلك يشمل الحرص على وجود ممرات خاصة للحافلات والدراجات، وفرض رسوم على ركن السيارات في الشوارع، وتخصيص مناطق جديدة لتناول الطعام في الهواء الطلق. وبمجرد أن تنتعش الاقتصادات مرة أخرى يجب إعادة النظر في فرض رسوم على دخول المناطق المزدحمة.
فهل يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تنجح من جديد في جذب الأشخاص الذين تجنبوا وسائل المواصلات العامة بسبب تخفيض الخدمة ومخاوف تتعلق بالسلامة؟ تقول فاندينبيرغواز، مشرفة الاستثمار من مدينة دنفر: "بمجرد أن نأخذ اللقاح وتصبح الأمور تحت السيطرة، سأعيد النظر بالتأكيد بخصوص استخدام المواصلات العامة".
لكن، إذا كان استخدام السيارة للذهاب إلى العمل بالنسبة لفاندينبيرغواز حلاً مؤقتاً، فقد يكون بالنسبة لكثيرين غيرها تحولاً جذرياً يترسخ يوماً بعد يوم.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Worklife