تتوق الحكومات والشركات وجموع المستثمرين في أسواق المال باستمرار إلى التوقعات الاقتصادية الموثوقة، الرسمي منها وحتى غير الرسمي الذي يصدر عن بيوت خبرة مرموقة، وذلك لما تشكله من أهمية في تحديد سياسات واستراتيجيات الحاضر للتعاطي مع المستقبل.
التنبؤ الاقتصادي العلمي لا يبنى على التصريحات أو التقديرات الجزافية، وهو عملية معقدة وحساسة بهدف الوصول إلى أقرب تقييم لمستقبل الاقتصاد ومكوناته والعوامل المؤثرة فيه، وتتم باستخدام مجموعة واسعة من المؤشرات المهمة.
وتحتاج هذه العملية إلى بناء نماذج إحصائية وتزويدها بمدخلات من العديد من المتغيرات أو المؤشرات الرئيسية، عادة في محاولة للتوصل إلى معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في المستقبل، كهدف رئيسي للتنبؤ الاقتصادي. وتشمل المؤشرات الاقتصادية الأساسية التي يتم الالتفات إليها عند بناء عملية التنبؤ الاقتصادي، التضخم، وأسعار الفائدة، والإنتاج الصناعي، وثقة المستهلك، وإنتاجية العمال، ومبيعات التجزئة، ومعدلات البطالة.
بسبب السياسة والمآخذ على السياسيين، ينظر الكثيرون إلى التوقعات الاقتصادية التي تصدرها الحكومات ببعض الشك، وفي الوقت نفسه، تدفع التحديات والجوانب السلوكية البشرية للتنبؤ الاقتصادي الاقتصاديين في القطاع الخاص إلى فهم التنبؤات بشكل خاطئ أحيانا.
ورغم المنهجية العلمية والاعتماد على المؤشرات الموثوقة، فإن التنبؤات الاقتصادية والخبراء العاكفين عليها موضع اهتمام وجدل كبيرين، في إطار مغلف بالشك والحيرة لما يعتقد أنه فهم خاطئ للاقتصاد وطريقة عمله.
كيف ضل الاقتصاديون الطريق؟
في بعض الأحيان، قد تأخذ دراسة الاقتصاد (التي تستمر منذ 250 عاما على الأقل) منحى خاطئا، إذ يود العديد من الاقتصاديين الاعتقاد بأن تخصصهم أصبح أكثر تقدما من السابق، لكن يجادل اثنان من كبار الاقتصاديين البريطانيين بأنه في إطار جهود جعلها أكثر «صرامة»، ضل الاقتصاديون الطريق بشكل خطير.
في أهم كتاب اقتصادي لعام 2020، «عدم اليقين الراديكالي: اتخاذ القرار من أجل مستقبل مجهول»، من تأليف البروفيسور «جون كاي» من جامعة أكسفورد والبروفيسور «ميرفين كينج»، المحافظ السابق لبنك إنجلترا، يجادل الخبيران بشأن التحورات الجوهرية التي دخلت على دراسة الاقتصاد.
وكان الدافع الكبير لدراسة الاقتصاد منذ الحرب العالمية الثانية، هو جعل الموضوع أكثر صرامة وعلمية من خلال التعبير عن حججه واستدلاله في المعادلات الرياضية بدلا من الكلمات والرسوم البيانية، ويتهم الاقتصاديون أحيانا بمحاولة تمييز تخصصهم عن العلوم الاجتماعية الأخرى بجعله أشبه بالفيزياء.
وتهيمن الرياضيات الآن على علم الاقتصاد لدرجة أنه أصبح تقريبا فرعا من الرياضيات التطبيقية. لا يعترض «كاي» و«كينج» على الاستخدام المتزايد للرياضيات (كانت هناك تطبيقات نافعة ورائعة بالفعل).
لكنهما يقولان إنه خلال محاولة جعل النظرية الاقتصادية التقليدية أكثر قابلية للتكيف مع التفكير الرياضي، أضاف الاقتصاديون بعض الافتراضات المبسطة حول الطريقة التي يفترض أن يتصرف بها الأفراد والشركات وصانعو السياسات الاقتصادية والتي تأخذ النظرية الاقتصادية بعيدا عن الواقع.
ما الخطأ إذن؟
عندما أطلق العلماء في «ناسا» عام 2004 صاروخا للدوران حول عطارد، حسبوا أنه سيسافر 4.9 مليارات ميل ويدخل المدار في مارس 2011. لقد فهموا ذلك تماما لأن معادلات حركة الكواكب تم إدراكها جيدا منذ القرن السابع عشر، ولم تتغير على مدى ملايين السنين، كما أن أفعال البشر لا تؤثر على هذه الحركة.
وهناك أيضا نظرية الاحتمالات، مثلما هو الحال في ألعاب الحظ حيث يمكن حساب احتمال أن تكون البطاقة التالية هي الآس البستوني. وفي عام 1921، دعا البروفيسور «فرانك نايت» من جامعة شيكاغو إلى ضرورة التمييز بين «المخاطرة» و«عدم اليقين».
ويتم تطبيق المخاطر على الحالات التي يمكن فيها حساب احتمال حدوث شيء ما بدقة، أما عدم اليقين فينطبق على الحالات الأكثر شيوعا التي لا يمكن لأحد أن يقول بأي قدر من اليقين ما سيحدث.
ويقول «كاي» و«كينغ» إن الاقتصاد قد اتخذ منحى خاطئا عندما أعلن خليفة نايت في شيكاغو، وهو «ميلتون فريدمان»، أن التمييز السابق كان خاطئا، وأصبح الاقتصاديون قادرين على المضي قدما في اختزال كل شيء إلى معادلات واستخدامهم لعمل توقعاتهم حول ما سيحدث في الاقتصاد.
وبدلا من مواجهة حالة عدم اليقين المحيطة بالقرارات الاقتصادية التي يتخذها البشر، فقد وقع علم الاقتصاد في فخ استخدام اثنين من الافتراضات المريحة ولكن غير المبررة، لجعل علم الاقتصاد أشبه بعلم فيزيائي ولعبة حظ حيث يمكن حساب احتمالية حدوث الأشياء بدقة.
وهناك عنصر كبير من خداع الذات في هذا، فإذا قيل لخبير اقتصادي إنه يعتقد أنه يعرف ما يخبئه المستقبل، فسوف ينكر ذلك بشدة. لكن الحقيقة هي أنهم يواصلون تحليل السلوك الاقتصادي والتنبؤ بطرق تفترض ضمنيا أنه من الممكن معرفة المستقبل، حسب ما نقله موقع «أرقام».
ويخلص المؤلفان إلى أن عالم الاقتصاد والأعمال والتمويل، غير ثابت ولا تحكمه قوانين علمية ثابتة، ويقولان: سيجري الأفراد ومجموعات مختلفة تقييمات مختلفة ويتوصلون إلى قرارات مختلفة، وغالبا لن تكون هناك إجابة صحيحة بشكل موضوعي، سواء قبل الحدث أو بعده.
لا بلورة سحرية
هناك حالة من الجدل بين الاقتصاديين الأميركيين حاليا بشأن حزم الإنفاق المتعددة والضخمة للإدارة الأميركية، وما إذا كانت مبالغا فيها وستتسبب في تداعيات غير محمودة، وهو ما يقلل من شأنه الأستاذ المساعد للتمويل في جامعة ستوني بروك سابقا «نوح سميث».
ويقول سميث: من المهم أن ندرك أنه على عكس المهندسين، أو حتى خبراء الأرصاد الجوية، لا يمتلك الاقتصاديون نظريات يمكنها توقع أشياء مثل التضخم أو البطالة بأي نوع من الموثوقية.
ويمكن لنماذج التنبؤ الأكاديمي الأكثر تعقيدا أن تعطي فقط صورة غامضة لما سيبدو عليه الاقتصاد بعد أفق مدته ثلاثة أشهر. لا يملك الاقتصاديون كرة بلورية، ولكل ما لديهم هو المعرفة المتراكمة من قضاء الكثير من الوقت في البحث عن الإحصاءات الاقتصادية ودراسة التاريخ وقراءة الأخبار.
مع ذلك، فإن خوارزمية التعلم الآلي الموجودة داخل رؤوس الاقتصاديين والمسؤولة عن توليد الحدس، تتمتع بخبرة أكبر بكثير وبيانات أكثر بكثير من تلك التي يتمتع بها الشخص العادي، مما يتيح لهم الحصول على رؤى أفضل بكثير.
في مسح أجري عام 2012، لم يقلق أغلب الاقتصاديين بشأن التضخم الذي قد ينتج عن جولة ثالثة من التيسير الكمي، لكن إجاباتهم اتسمت بعدم الحسم رغم أن الجولتين السابقتين فشلتا في إثارة التضخم، حيث وافق 41% منهم على أن التضخم لن يكون مؤثرا ورفض 13%، فيما قال 46% إن الأمر يتسم بعدم اليقين أو أنهم لا يملكون إجابة.
ويعتبر الاقتصاد الكلي موضوعا معقدا بطبيعته لدرجة أن حتى كبار الخبراء غالبا يشبهون الأعمى الذي يقود مجموعة من أقرانه المكفوفين، ولن يكون بمقدور التنبؤات الاقتصادية والاقتصاديين أن يخبروا بما سيقع مستقبلا.