وفقا لرأي هنري كيسنجر يعتبر ان هزيمة روسيا ستحولها إلى جبهة عسكرية صينية متقدمة في العمق الأوروبي، ولذلك لن يكون مقبولا استراتيجيا بالنسبة للأميركان أن تنهار روسيا كقوى فاعلة عالميا لصالح الصين، وبالتالي فإن أكبر هدف استراتيجي يعمل له الأميركان في الوقت الحالي هو استخدام كل الوسائل اللازمة لضمان عدم وحدة الموقف الاستراتيجي لكل من الصين وروسيا، وتستخدم أميركا في سبيل هذه الغاية بشكل واضح وسيلة استفزاز المصالح الجيوسياسية الصينية تجاه تايوان، والمصالح الجيوسياسية الروسية تجاه أوكرانيا، ثم تتباين في تعاطيها مع الملفين لخلق فجوة في منهجية حسابات كل من الصين وروسيا.
ولذلك من البديهي استراتيجيا أن يجد الغرب نفسه مضطرا للتنازل عن أوكرانيا لصالح روسيا، أو تايوان لصالح الصين، وذلك بهدف تسوية حساب أحدهما وإبعاده نسبيا عن الآخر بشكل يضمن عدم وحدة المقاربة الدولية لكل منهما في آن واحد، عبر تفكيك مصالح كل منهما الجيوسياسية بطريقة تجعل منهجية تعاطي كل شريك لتحقيق مصالحه الجيوسياسية لا تتسق مع منهجية الشريك الآخر فتختلف بالضرورة مقاربة كل منهما الدولية.
ولو رجعنا لما قبل اندلاع الحرب الأوكرانية بعدة أشهر لوجدنا بعض القرائن التي تعزز هذه الفرضية:
١- انعقدت قمة جنيف التي جمعت بوتين مع بايدن في تاريخ 16/6/2021.
٢- قال بايدن للصحافة بعد اجتماع القمة: «ترغب روسيا بالتعاون مع أميركا لأنهم يتعرضون للضغط من قبل الصين، ويبدو ان روسيا تريد بشدة أن تظل قوة كبرى»
٣- بعد 8 أشهر فقط، وفي تاريخ 24/2/2022 قامت روسيا باجتياح أوكرانيا وفقا لعمليات روسية وردود فعل أميركية منضبطة القواعد فيما يخص اعتبارات وتعاطي كلا الطرفين مع بعضهما.
٤- وصف بوتين بعد انتهاء هذه القمة، الرئيس بايدين بأنه سياسي مخضرم، ولم يقم بوتين بإطلاق هذا الوصف إلا لأنه رأى من بايدن ما يدعوه لقول ذلك، وغالبا إذا فهمنا عقلية بوتين المهووسة باعتبارات روسيا الجيوسياسية، فسيكون ما أثار اعتراف بوتين على الملأ بأن بايدن مخضرم، هو دغدغة بايدن لاعتبارات بوتين الجيوسياسية، وقد يكون جزء من تفاهم هذه القمة، هي اتفاق الرئيسين على قواعد تقسيم أوكرانيا بشكل يحقق مصالح روسيا الجيوسياسية كمكافأة أميركية لروسيا، مقابل تفكيك حلف روسيا/ الصين المهدد للموقف الأميركي على الصعيد الاستراتيجي عالميا.
وحقيقة لا يمكن الجزم بأن قمة جنيف نتج عنها اتفاق روسي/ أميركي على تقسيم أوكرانيا، ولكن بنفس الوقت لا يمكن إغفال احتمالات حصول ذلك، خصوصا مع وجود دواع أميركية استراتيجية تجعل مثل هذه الخطوة الأميركية أمرا ممكنا، وبنفس الوقت وجود دواع روسية جيوسياسية تجعل من مثل هذا الاتفاق مقبولا روسيا.
وما يزيد من احتمالية هذه الفرضية أنه مع مرور اكثر من أربعة شهور، لا تبدو العمليات الروسية في أوكرانيا منطقية إذا كان هدف روسيا هو السيطرة على كامل أوكرانيا، حيث المؤكد أن روسيا لم تقم بوضع ثقلها العسكري في أوكرانيا، ولم تشترك إلا بقدرات عسكرية محدودة، كما خصصت نشر قواتها بشكل خاص في منطقتي الشرق والجنوب الأوكراني، حيث اصبح يبدو الأمر وكأنه تقسيم للجغرافيا الأوكرانية.
لذلك وبسبب اختلاط الأوراق وعدم وضوح حسابات الأطراف المنخرطة في الحرب الروسية - الأوكرانية، ومع ظهور رغبة أميركية بأن يندفع الصينيون لاجتياح تايوان، حتى يختل موقف الصين الاستراتيجي، والذي تمثل بالاستفزازات الأميركية للصين في مضيق تايوان، إلا أن الصين لن تقوم بإعطاء الولايات المتحدة الخطوة التي ترغب بها أميركا عبر اجتياحها لتايوان أثناء هذه الفترة التي تنشط بها عمليات الحرب الروسية - الأوكرانية، كما أعتقد لن يكون هناك قبل عام 2025م على أقرب تقدير أي اجتياح صيني لتايوان، وذلك وفقا للحسابات الاستراتيجية الصينية المبنية غالبا على ما سبق ذكره، لذلك وبسبب امتناع الصين عن اجتياح تايوان في هذا التوقيت، فعلى الأرجح سيدفع الغرب نحو إنهاء حرب أوكرانيا في عام 2022م أو 2023م على أقصى تقدير لأنها لم تحقق هدفها الاستراتيجي في دفع الصين لاجتياح تايوان، لذلك سنشهد جهودا عربية تعمل على تمرير تسوية لا تكسر روسيا، عن طريق إجبار أوكرانيا على التنازل عن إقليم الدونباس والقرم على الأقل مقابل إيقاف روسيا لكل عملياتها العسكرية الأخرى في أوكرانيا.
بينما لو قامت الصين بالتخلي عن الميزة التي يحظى بها موقفها الاستراتيجي العام، وقررت اجتياح تايوان أثناء اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية (وهو ما لا أتوقع أن يحصل في هذه الفترة) فعندها فقط ستطول الحرب الروسية - الأوكرانية، وستقوم عندها روسيا برمي كامل ثقلها العسكري لحسم حرب أوكرانيا والقيام بابتلاعها بأسرع وقت ممكن وهو الأمر الذي قد يجعل من عمر الحرب يمتد لفترات أطول من حدود عام 2023م.
وختاما في سياق هذه الحسابات الاستراتيجية التي قد أظهرت لنا ملامحها آخر التطورات العملياتية في أوكرانيا، فإن أكثر موقف منطقي يفترض أن نقوم به كدول خليجية في حال لم تقم الصين بغزو تايوان في هذا الوقت ولم تتحول الحرب الأوكرانية لمشهد يرمي به الروس كامل ثقلهم العسكري، سيكون الانخراط السريع في تفاهم نفطي جديد يترتب عليه تخفيض سعر النفط لمتوسط 70 دولارا للبرميل، كما من المهم أن نحظى بشراكات استراتيجية أكثر متانة وأكثر تشعبا مع الصين في حال لم تقم الأخيرة باجتياح تايوان خلال هذه الفترة، لأنها ستكون الدولة التي تحظى بأفضل وأقوى موقف إستراتيجي على المستوى العالمي، ومن الحصيف أن نستفيد من هذه الحالة المتفوقة.
akalghanim11@
عبدالله خالد الغانم ـ
كاتب ومحلل سياسي