يبحث الكثيرون عن طرق التربية الصحيحة والقويمة للأبناء، وزاد مدعو هذا الفن في وسائل التواصل، وعجت المكتبات بتأليفات في التربية، وأصبح كل صاحب تجربة منظرا في التربية، لكنها في الواقع هي ليست رياضيات أو فيزياء حتى تستقيم بمعادلة، أو تقاس بمعطيات ونتائج، بل هي عملية لها أصول عامة مشتركة، وفيها الكثير من التفاصيل المختلفة، فالبيئة والبلد والأسرة والزمن كلها فوارق لا يراعيها الكثير من منظري التربية، والأبناء ليسوا سواء كل منهم له أفكار وقدرات، فكيف بكتاب أو تغريدة نحدد كيف نربي الأبناء على اختلافاتهم؟ إن أعظم مدرسة للتربية هي مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم أجد كالنبي هاديا ومرشدا للتربية، فدرره منثورة في سيرته العطرة، بما كان يعامل أصحابه وأبناء الصحابة، فمن أراد التزود فخذ ما تشاء من المنهل النبوي، ولعل أبرز ما تراه في تلك الدرر غرس القيم، وبذرها في النفوس ورعايتها لتكون شجرة عظيمة لا تهزها رياح حاجة أو هوى نفس. ومراعاة الفروق الفردية، والتوسط بين والشدة واللين والحزم والعطف في أكمل صوره.
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على القيم وبذرها في نفوس أصحابه، فالقيم من العموميات التي لا تتغير من وقت لآخر، أو تتبدل من بيئة أو تختلف بوضع اجتماعي، فنرى قيمة الكفاءة مثلا، تبرز بما فعله الحبيب مع عمرو بن العاص رضي الله عنه فبعد إسلامه بشهور يقود سرية فيها الشيخان! لا لشيء إلا لتقديم كفاءة عمرو بالقيادة والتدبير، وحتى يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ نراه يجيب عمرو عندما سأله عن أحب الناس إلى قلبه فقال عائشة ثم أبيها، فلم يقدم حب النبي لأبي بكر رضي الله عنه لقيادة الجيش، مقابل كفاءة عمرو القيادية.
إن تلك الواقعة تؤكد لنا فهم النبي لكل ما يأتي في التربية وكتبها، حتى ينشئ الفتى على تلك القيم فهي الركيزة التي لا تتغير أو تتحول، فما نرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا مراعيا بدقة للفروق الفردية، لذلك أبدع الصحابة وأخرجوا كل طاقاتهم عندما وجدوا من يفهمها ولا يعاملهم كأسنان المشط لا فرق بينهم.
فشاعر النبي حسان بن ثابت رضي الله عنه لا ناقة له ولا جمل في حرب أو حمل سلاح، وكذلك خالد بن الوليد سيف الله المسلول البطل الفذ رضي الله عنه لم يوقف إبداعه بأن جعله من أهل حفظ الحديث أو كتابة القران، وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه تخصص بالسوق والتجارة، وهكذا كان الصحابة تخصصات متنوعة فجنى الإسلام ازدهارا وقوة بسرعة فاقت كل الحضارات السابقة واللاحقة له.
يجب أن يفهم مدعو التربية أن الأبناء لا يتشابهون، والفوراق الفردية هي سنة الكمال في البشرية، فلنستوعب هذا الأمر كما استوعبه خير البشر. ونفهم اختلاف الأبناء حتى ننتج جيلا بناء، يثق في نفسه وقدراته، فيبدع لوطنه ويكمل عمل أقرانه.