في عالم تتسارع فيه خطى التطور، لم يعد الابتكار ترفا، بل أصبح ضرورة تمليها التحديات المتجددة، فالمجتمعات التي تنهض ليست تلك التي تكتفي بتبني الحلول الجاهزة أو إعادة إنتاج ما هو موجود، بل التي تخلق بيئة خصبة تحفز الإبداع وتصنع نماذجها الخاصة في التنمية. والكويت، بتاريخها العريق وإمكاناتها الواعدة، تمتلك فرصة ذهبية لصياغة نموذج ريادي يعكس هويتها ويواكب طموحاتها.
لقد قطعت الكويت خطوات مهمة نحو التحول الرقمي، ولعل من أبرزها: برنامج «سهل»، الذي ساهم في تبسيط وتسريع الخدمات الحكومية. غير أن المرحلة الحالية، تتطلب ما هو أبعد من تحسين الخدمات الإلكترونية، إذ لابد من تبني رؤية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والإدارة، ليكون الجميع شركاء في البناء والتطوير، خصوصا في ظل وجود توجهات إصلاحية عليا تتسم بالجدية والطموح لصياغة هوية حداثية لدولة أكثر تطورا وكفاءة.
وهنا تبرز أهمية إطلاق منصة وطنية رقمية للمبادرات المجتمعية، تكون بمنزلة حاضنة للأفكار العصرية ومختبرا للحلول الإبداعية، بحيث تتحول الأفكار الفردية إلى مشروعات وطنية مدعومة، يجد أصحابها البيئة المناسبة لتنفيذها.
هذه المنصة من المفترض أن تكون جسرا بين العقول المبتكرة وصناع القرار، تفتح الأبواب لأصحاب الرؤى في مختلف المجالات، سواء في التعليم، أو الصحة، أو الإسكان، أو الاستدامة البيئية أو غير ذلك، كي لا تبقى الأفكار حبيسة الأذهان، بل تلمح طريقها للنقاش والتطوير والتطبيق.
لكن نجاح هذه المنصة لا يقتصر على تبني الأفكار فحسب، بل ينبغي أن يمتد إلى اكتشاف المواهب وتمكين الكفاءات، لأن من يمتلك القدرة على الابتكار، ربما تكمن بداخله أيضا مقومات القيادة. وكما يقول الفيلسوف فرانسيس بيكون: «المعرفة قوة، لكنها لا تصبح نافعة إلا إذا وضعت موضع التنفيذ». فالمجتمعات الناجحة هي التي تستثمر طاقاتها البشرية، وتمنح المبدعين الفرصة ليكونوا في مواقع التأثير وصناعة القرار.
إن وجود رؤية إصلاحية قوية ومتجددة في الكويت في هذا العهد، يتيح فرصة مواتية لإحداث نقلة نوعية في آليات صنع القرار والتفاعل المجتمعي مع التنمية، وهو ما يجعل من الابتكار ثقافة وطنية، والتجديد نهجا مؤسسيا. والتجارب العالمية، تؤكد أن الدول التي تحتفي بالعقول وتوفر لها الأدوات اللازمة، هي التي تتصدر المستقبل. فالإمارات ـ مثلا ـ نموذج ملهم في تشجيع صناعة المبادرات، ولاسيما ما يتعلق بالمقترحات ذات الطبيعة المجتمعية،، فقد نجحت في صياغة قواعد لتحفيز الابتكار محورا لسياساتها التنموية والتحديثية، مما عزز مكانتها في المؤشرات العالمية وأكسبها قدرة تنافسية عالية.
الكويت في هذه المرحلة التاريخية المهمة التي ترسم خلالها نموذجها الحداثي الخاص بها، يمكنها بمثل تلك الأفكار أن تحول التنمية إلى مشروع وطني يشارك فيه أبناء الوطن الواحد، فتغدو الأفكار قوة دافعة، والمجتمع محركا للتغيير، والحكومة بيئة مشجعة وحاضنة، خصوصا مع ما يتداول عن قرب إقرار برنامج العمل الحكومي.
ختاما: المستقبل لا ينتظر، بل يصنع. والابتكار ليس خيارا رفاهيا، بل مسؤولية جماعية. وكل فكرة تحتضن اليوم، قد تكون ركيزة لمستقبل أكثر ازدهارا غدا.
[email protected]