العمل الذي أقدم عليه الشاب الكويتي وهو بيع عصير بدينار بالشارع حتى يجمع المال الذي يحتاجه لتأمين تكاليف علاجه بسبب امتناع وزارة الصحة من تقديم علاج له بالخارج، أثار ضجة على قنوات التواصل الاجتماعي، فالكثير استنكر رفض الوزارة تقديم العلاج له كون العلاج حقا مكتسبا وكونه كويتيا، والكثير الآخر استنكر قيامه بعمل بسيط كبيع عصير بالشارع في الحر وتحت الشمس. شخصيا أعتقد أن هذا الشاب اختار البديل الصحيح بين بديلين، الأول: العمل الشريف حسب قدراته وبجهده ليجمع المبلغ الذي يريد لعلاجه والذي يشكل أولوية له، والبديل الثاني: إعلان سخطه وتذمره من الفساد والبدء في البحث عن واسطة تأتي له «بحقه» ليتحمل من بعدها جميلا لمن أتى له «بحقه» وليرد له هذا الجميل في مواقع أخرى أهمها الانتخابات. لذلك حرصت على الذهاب لموقعه وشراء عصير من عنده دعما له، لكنني وجدته يقدمه بالمجان، وعند سؤالي له عن السبب قال: «أحرجوني! فيه عصير بمائة دينار!». للأسف تعاطف البعض الذي أراد إعطاءه (وليس الشراء منه) مبالغ تفوق قيمة العصير لأنهم رأوه كويتيا بحاجة للعلاج ويعمل بالحر وتحت الشمس في بيع العصير، أشعرته بالحرج لأنه بكل بساطة يمتلك عزة نفس، وعزة النفس هنا هي التي دفعته لتقديم العصير بالمجان، وهي ذاتها التي دفعته منذ البداية لاختيار العمل وعدم لجوئه للغير وتذله لهم، وجعلت من كرامته التي رفضت العطف من الغير، تأخذ الأولوية على حساب أولوية علاجه الذي يحتاج. وهنا نتساءل: هل من قدم المائة دينار له ساهم بدعمه لتحقيق هدفه أم هو عبر عن عاطفته وألمه لرؤية شاب كويتي يعمل بعمل بسيط؟ هل من قام بهذا التصرف العاطفي، حسن النية واللاواعي ساهم بمساعدة الشاب ام كان بالإمكان لهذا التصرف العاطفي أن يدفع به باتجاه طاغ محتكر لحقوق يقدمها مقابل ولاءات؟
العمل المنتج ليس عيبا لكل من يمتلك عزة نفس وكرامة لكن نحن تعودنا على شكل معين وصورة نمطية لحياتنا جعلتنا لا نتقبل كل أنواع العمل ونحدد البعض منها ليكون عملا يليق بالكويتي دون غيره، والحاجة لا تفرق بين كويتي وغير كويتي، وهذه الصورة النمطية ذاتها هي التي جعلت البعض يقدم العطف والشفقة للشاب ولا يقدم التقدير للعمل الذي يقوم به، فالشاب يريد الدعم الموضوعي لا العاطفي من خلال الحرص على الشراء، وحث الغير على الشراء منه أو شراء كميات اكثر، وليس تقديم الشفقة.
تنازلنا عن العمل المنتج هو اهم الأسباب الرئيسية لتفشي الفساد، فالعمل المنتج يخلق الشعور بالذات من خلال الكسب والكسب يخلق الوعي (الداخلي والخارجي) الصحيح والمتزن الذي يدرك به الفرد مصالحه وحقوقه، لذلك نشأت القاعدة الطبيعية «لا وجود لحقوق دون عمل»، لكون العمل هو الكفة المقابلة لكفة الحقوق، وإذا اختلت كفة العمل فحتما ستختل كفة الحقوق وما تشملها من قوانين وممارسات وهو الواقع الذي نعيشه كلنا اليوم، وأخطر ما نواجهه اليوم ونغذيه لأبنائنا دون وعي هو تنازلنا عن العمل المنتج بحجة الحقوق، فذلك يعزز الاتكال على الغير وهذا الاتكال يزيد من سطوة المتنفذين الذين يقتاتون على هذا الاتكال من خلال استخدامهم لذريعة «إتيانهم بالحقوق لأصحابها»، وبذلك نحن نزيد من طغيانهم بحجة حاجاتنا التي يسمونها حقوقا! الحقوق حتى تأتي وتكون لا تحتاج لشخص يأتي بها من خلال نفوذ، لكن تأتي من خلال العمل الذي يعزز من دور الفرد ومكانته بالمجتمع، فالمنتج يطالب بصوت قوي وواثق، أما غير المنتج فيرضى بكل ما يقدم له وان لم يرض فليس أمامه سوى التذمر والبحث عن المخلص الطاغية ليأتي له بحق ثانوي على حساب حقه الأصيل وهو كرامة مواطنته!
يقول إتيان دو لا بويسي (مفكر فرنسي في القرن السادس عشر) في كتابه العبودية المختارة: «من أين (للطاغية الفاسد) بالعيون الكثيرة التي تراقبكم لولا انكم أعطيتموه إياها؟ وكيف امتلك هذه الأيادي التي يضربكم بها لو لم يأخذها منكم؟ والأقدام التي يجوب بها مدنكم من أين جاء بها لو لم تكن هي أقدامكم؟ كيف تسنى له ان يستقوي عليكم لو لم تمكنوه من ذلك؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ ماذا بوسعه ان يفعل لو لم تكونوا أنتم من يأوي اللص الذي يسرقكم وشركاء السجان الذي يقتلكم وخونة أنفسكم.. لا أريد منكم أن تدفعوه دفعا، ولا أن تخلعوه خلعا، بل كفوا عن مساعدته فقط ولسوف ترونه ينهار كتمثال أزيحت قاعدته فهوي وتحطم».
www.aliafaisalalkhaled.net