ما أزال أذكر أحد أوائل الاختبارات التي قدمتها في جامعة هيميجي دوكيو في اليابان، والسبب الذي أبقاه بالذاكرة أن د.يامادا خرج من الفصل أثناء تأديتنا للاختبار، كانت صدمة ثقافية بالنسبة لي، التفت يمينا وشمالا باحثا عن إجابة لهذا الفعل غير المألوف، كيف يترك الحبل على الغارب ويذهب، أنظر لوجوه الطلبة اليابانيين لعلي ألقى إجابة لهذا الفعل الشنيع، كيف يتركنا دون رقيب، لا أحد يلتفت إلي، بل لا أحد يتحدث، الكل مندمج في حله، يا للعجب، طلبة متاح لهم كل السبل للغش، ولا أحد يغش، وهذا أضيفه للمواقف التي لا أستطيع أن أرويها لزملائي في مدرستي الثانوية، فمن الذي يمتلك الجرأة لتصديقي، بأن هناك طلبة يمكن ألا يغشوا دون أن يراقبهم أحد؟!.
طرق التربية والتعليم في اليابان تعتمد على إعطاء الثقة للطفل، فالأبوان يتعاملان مع أبنائهم على أنهم أهل للثقة، وعند دخوله للمدرسة يتم التعامل معه على هذا الأساس، وكلما أعطيت الطفل ثقتك حاول بكل إمكانياته بأن يكون أهلا لها، وهذا يشكل لدى الطفل المحاسبة الذاتية، بقصد أنه سيكون رقيبا نفسه، ولا يحاول أن يخون أي ثقة تمنح له، وعندها لا تحتاج لأن تضع عليه رقيبا، والدولة كذلك تتعامل مع الياباني على أنه أهل للثقة، وهذا يوفر عليها مليارات الينات، التي تصرف في دول أخرى على الرقابة بكل أنواعها، وليس التوفير فقط المهم، الأهم هو أنك تبني إنسانا يحاول أن يكون أهلا لثقة مجتمعه، فلا يلتزم بالقانون خوفا منه، إنما يحترم القانون قناعة بأنه أهل للثقة، ويحاول أن يؤدي عمله بالأمانة والصدق، حتى لا يخون ثقة مجتمعه والجهة التي يعمل بها، فالمنظومة الاجتماعية تنتظم بتصرفات سلوكية بسيطة، وعلى جرعات تربوية قليلة منذ الصغر.
الملاحظ أن التربية بأغلب أنواعها بالكويت وغالب الدول العربية تهدم الثقة في النشء، وهذا ينعكس على شخصياتهم، ونظرتهم للقانون بأنه عبء عليهم، وليس حماية لهم، وما يترتب على ذلك بأن يتعاملوا مع أمورهم الحياتية، على حسب الرقابة، فإن وجدت التزموا، وإن لم توجد انتهكوا، وهذا يحدث نتيجة تراكمات، فالطفل في أسرته، لا يعطى الجرعات الكافية من الثقة فيه، والمدرسة كلما فعلت أدواتها الرقابية نظر لها المجتمع بأنها مدرسة جيدة، والدولة كذلك لا تخلو من هذه العيوب، فأحيانا تتشدد في نواح، وتهمل الرقابة في نواح أخرى، فالاعتدال مطلوب، وآخر الأمثلة الواضحة ما قام به ديوان الخدمة بما يسمى بـ(البصمة الثالثة)، فعوضا من مكافأة الملتزم، عاقبته بعبء وظيفي، وهدمت الثقة بينه وبين جهة عمله، فلو كانت الزيادات في الراتب ربطها الديوان بإنجازات الموظف فستجد الأغلبية العظمى تتنافس على الإنجاز، وتقلص الفجوة أزمة الثقة بين المواطن وجهة عمله، تفعيل الرقابة أسهل قرار ممكن أن يتخذه المسؤول، ولكن التعامل على أساس الثقة يحتاج الكثير من المجهود بالبداية، ولكن مفعوله سحري في النهاية، والمجتمع الياباني خير مثال لذلك.
هي ليست دعوة لهدم منظومة التعامل داخل المجتمع الكويتي أو حتى العربي، هي دعوة لإعادة النظر في طريقة التعامل بين جميع أطراف المجتمع، ويحتاج تطبيق ذلك لمجهود فكري ضخم، لكن بالتأكيد ستكون نتائجه جميلة، فالتاريخ يخبرنا بأنه لا يوجد مجتمع وصل فيه الوعي لإعادة النظر في علاقاته البينية، وقيمه الإجرائية، ومدى تباعدها أو تقاربها بين قيمه المثالية التي ينادي بها ولم يستطع أن يحولها لإجراءات مطبقة، إلا وكان النجاح مصيره، فطريق النجاح الياباني بدأ بالتباحث الفكري داخل المجتمع، والنتيجة ما نراه الآن.
tab6_khayran@