«فرانتز» متردد في الذهاب إلى المدرسة، فهو يخشى العقاب بسبب تقصيره في دروس اللغة الفرنسية. وعند وصوله إليها، يفاجأ بأجواء مختلفة، الفصل هادئ بشكل غير مألوف، والسيد «هاميل» المعلم يبدو جادا وحزينا. يعلن أن هذا اليوم سيكون آخر درس في اللغة الفرنسية، لأن السلطات البروسية قررت أن تدرس جميع المواد باللغة الألمانية اعتبارا من اليوم التالي. يلقي المعلم درسا مؤثرا عن جمال اللغة الفرنسية وأهميتها، ويقول خلال شرحه: «حتى لو أصبح الشعب مستعبدا، طالما يحتفظ بلغته، فإنه يمتلك مفتاح الحرية». ثم يدعو الطلاب إلى تقدير لغتهم وحمايتها، لأنها تمثل هويتهم الوطنية ووسيلة للحفاظ على ثقافتهم حتى في ظل الاحتلال. يشعر «فرانتز» بالندم على تقصيره في تعلم اللغة الفرنسية، ويتمنى لو أنه اهتم بدروسه أكثر. وفي نهاية الحصة، يكتب المعلم على السبورة بأحرف كبيرة: «Vive La France!» (تحيا فرنسا). هذا مختصر للقصة الشهيرة «الحصة الأخيرة» للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه.
أجلس في مقهى صغير بشكل دوري، تعمل فيه سيدتان فاضلتان، الأولى فلبينية والثانية هندية، لغة الخطاب بينهما هي العربية، ورغم ذلك فإن جميع الزبائن العرب يناديانهما بعبارة «إكسيكيوزمي بليز»، ويبدأون بالحديث معهما باللغة الإنجليزية، هما ارتضتا اللغة العربية كوسيلة للتعبير عن الذات، أما نحن فقد أجبرناهما على الحديث باللغة الإنجليزية، أعتقد أن هذا الموقف وغيره من المواقف الكثيرة يشعرنا بمدى حاجتنا إلى احترام اللغة العربية فعلا لا قولا فقط، والتعامل مع اللغات على أنها مجرد أداة لتوصيل المعلومة هو إجحاف بحقها، فهي تحمل في طياتها ثقافة أي مجتمع وعمقه التاريخي والوجودي، بل وحريته أيضا، فهي الوجه الآخر لهوية المجتمعات وانتماءاتها.
فعند زيارتي لتركيا مثلا، أشعر بالانتماء والعلاقة الوثيقة مع المغربي أكثر من التركي، رغم أن المسافة إلى تركيا أقرب، والدين واحد، والعمق التاريخي مترابط بقوة، بينما المغربي بعيد جغرافيا، والتاريخ المشترك أكثر بعدا من التركي، إلا أن اللغة العربية تجعلني أشعر بقرب المغربي أكثر من التركي، فهو عربي بسبب لغته، وأنا عربي للسبب نفسه، فاللغة العربية صنعت لنا حاجزا داخل عقولنا، يجعلنا نعتبر كل من تحدث بها داخل إطار مجموعتنا.
اللغات بشكل عام تصنع إطارات فكرية داخل عقول متحدثيها، فإن كانت اللغة ثرية ومرنة وقادرة على استيعاب المصطلحات الحديثة، فإن هذا يمنح المتحدثين بها حرية تعبيرية وفكرية أوسع، فمثلا، اللغة الروسية التي تمتلك تسميات متعددة لدرجات اللون الأزرق، تمنح الروس قدرة أكبر على تمييز هذا اللون مقارنة بغيرهم، وقس على ذلك الأفكار والمسميات، وهنا تكمن قوة وجمال اللغة العربية، التي تتيح لمستخدمها غالبية طرق التفكير والإدراك، ومن الظلم لهذه اللغة العظيمة أن نعلم العلوم بلغة أجنبية، فهذا لا يجعل بين المجتمع والعلم حاجزا فحسب، بل يصعب العملية التعليمية على الفرد الناطق بالعربية كلغته الأم، ومن المؤكد أن تعليم العلوم باللغة الأم يصنع إنسانا أكثر قدرة على استيعاب المجال العلمي وفهمه بعمق، ومن ثم ننتج علماء على مستوى عالمي.
tab6_khayran@