بعد أن دخلت المنزل في يوم صيفي حار، حيث تأخذ الزفير بسهولة ولا تستطيع أن تأخذ الشهيق إلا بطلوع الروح، حتى الرئة تكون في حالة صدمة من شدة حرارة الهواء الداخل عليها، وإذ بوالدي رحمة الله عليه جالس على الأريكة بكل أريحية، فسألت كيف كنتم تعيشون من دون مكيفات؟، فأجاب بأنهم كانوا يستخدمون «الخيشة» بعد ترطيبها بالماء، ويعلقونها في مكان دخول الهواء حتى ترطب الهواء، فمازحته قليلا قائلا: نحن نجلس الآن تحت مكيف منزلك الخاص، ولديك سيارة مكيفة، وتلفاز وجهاز هاتف ذكي، وكل سبل التطور التي يرغب فيها كل البشر، فأيهما أفضل الحياة الآن بهذه الرفاهية، أم الحياة في السابق والعودة للخيشة؟ فأجاب بما معناه أن الرفاهية والأمن والأمان والاستقرار المادي الذي نعيش فيه الآن لا شك أنه جميل، لكن كانت المعيشة في السابق لا شك أجمل، فأتبعته بالسؤال عن السبب وكنت أعتقد أنه يحن لأيام شبابه، لكن كان السبب هو أن نفوس الناس كانت أوسع وأجمل. حاولت بدوري أن أحلل الأسباب التي تؤدي إلى تغير المجتمع، بعض ما يمكن ذكره هو سببان مهمان:
السبب الأول هو أن الأعراف والمفاهيم الاجتماعية في جزيرة صغيرة قليلة السكان وعموم الكويت واضحة، وكانت العولمة لم تبدأ بـ«عمل عمايلها»، فمثلا عندما يتزوج شاب بشابة يعرف كلا الطرفين واجباتهما وحقوقهما، ولم تكن قد دخلت بعد المفاهيم الغربية للزواج، أما بعد دخولها فأصبح الكثير من الأزواج يطالبون زوجاتهم بالواجبات وفق المفاهيم العربية، ويرغب الزوج في أن يؤدي واجباته وفق المفاهيم الغربية، والزوجة كذلك، فأصبح الكثير من الأسر مهزوزة بسبب دخول مفاهيم لم تنشأ في الخليج، ولم نتعود عليها، بل يصعب علينا فهمها، لأنها لا تتناسق مع المفاهيم والأعراف العربية والخليجية الأخرى، فإما أن نقوم بتغييرها حتى تتأقلم مع الأعراف الأخرى وهذا يحتاج وقتا طويلا يصل لمئات السنين، وإما أن نأخذ جميع المفاهيم الغربية وندخلها علينا، وهذا صعب الحدوث بالعالم العربي المحافظ، والزواج هنا مجرد مثال على كيف أثرت العولمة في خلخلة الأعراف التي كنا نعيش عليها لمئات السنين.
أما السبب الثاني فهو أن الكثير من القيم العليا التي كانت مطبقة في التعاملات اليومية لدى مجموعة كبيرة من أفراد المجتمع حينها أصبحت نظرية غير مطبقة لدى مجموعة كبيرة، أو دخل عليها تفسيرات وتطبيقات كانت غير موجودة في السابق، فأصبحت غير واضحة مثلما كانت بالسابق، فالوفرة المادية، والعولمة الفكرية وطول وقت الفراغ في مجتمعاتنا مقارنة بغيرها كانت عوامل رئيسة في هذا التغيير.
الخلاصة، حسب اعتقادي أن لكل إنسان راحتين: راحة جسدية وراحة نفسية، الجسدية مهمة، لكن النفسية أهم، لكن يبدو أن الإنسان المعاصر هجرها أو أهمــلها، فالمكيف رغم جماله فإنه يخسر أمام «الخيشة» من ناحية الراحة النفسية، وليس من المعيب أن نتوقف قليلا، ونعيد التفكير كمجتمع، بمؤسساته وأفــراده، في قيمنا العليا، واذا كـــانت هنــاك فعلا مشكلة بها فعلينا أن نسخِّر أجهزة الدولة كالإعلام والشؤون والعدل لإعادة صياغتها دون تجاهل التفسيرات الحديثة لها.