صحا اليابانيون من أهالي طوكيو (إيدو) على صوت انفجار لم يسمعوه طوال حياتهم في 13 فبراير 1854، سفن سوداء ضخمة تدخل شواطئهم للمرة الثانية، لم يروا مثل ضخامتها طوال حياتهم، تضرب مدافعها مصدرة صوتا مجلجلا. اليابان التي كانت منعزلة عن العالم عزلا اختياريا لمدة تتجاوز 200 سنة، معظم الشعب الياباني حينها لا يعلم عما يحدث بالعالم من تطور علمي وتكنولوجي، وتغيرات في الأفكار والمفاهيم. فحسب القوانين في تلك الحقبة، من يخرج من اليابان يقتل، ومن يدخل يقتل. الحكومة الشوغونية لا تسيطر على الأجساد فقط، إنما حتى على الأفكار. كانت هذه السفن الأميركية تهددهم: إما أن تفتحوا بلادكم حتى تصبح سوقا مستهلكا لمنتجاتنا أو ندككم دكا. أصاب أهالي العاصمة رعب وارتباك، لا نستطيع أن نفعل لهم شيئا، فأكبر سفينة لدينا لا تنافس حتى أصغر ما لديهم. رضخ اليابانيون ووقعوا على فتح موانئ خاصة للتجارة مع أميركا.
الأحداث المتعلقة بهذه الحادثة في التاريخ الياباني كثيرة، لكن جمال التاريخ هو في الاستفادة من تجارب السابقين، وتحويلها لحلول للمشاكل الحادثة الآن لكن بطريقة عصرية. فردة فعل المجتمع الياباني المنعزل أمام ضخامة الحدث الذي وقع عليه في غاية الجمال، هم رضخوا في البداية ونظموا صفوفهم، وغيروا نظامهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وحتى العسكري بما يقارب الدقائق إذا ما قيست بتاريخ الشعوب. بعد ذلك انطلقوا بما يسمى في التاريخ بعثة إيواكورا عام 1871، وهذه البعثة بالنسبة لي على الأقل أجمل ما في التاريخ الياباني من أحداث. ضمت البعثة 48 عضوا من النخبة، بالإضافة إلى 53 طالبا يابانيا للدراسة في الخارج، وترأسها وزير العدل آنذاك إيواكورا تومومي، واستغرقت 22 شهرا في الطواف ما بين أميركا وأوروبا.
كان الهدف من الرحلة هو استيعاب المعرفة الغربية في مجالات السياسة، والقانون، والتعليم، والتكنولوجيا، والصناعة، والاستلهام من النماذج الغربية لتطبيقها بما يناسب الثقافة اليابانية والتقاليد المحلية، وتعديل المعاهدات المجحفة التي كانت قد وقعتها اليابان. نتج عن تلك الرحلة أن اليابان تحتاج إلى مزيد من التطوير قبل أن تتمكن من التفاوض بنجاح لتعديل المعاهدات، وإصلاح النظام التعليمي عن طريق اعتماد النظم التعليمية الغربية وإرسال الطلاب للدراسة في الخارج، وبناء جيش حديث يعتمد على النماذج الغربية، خاصة الألمانية، وإنشاء السكك الحديدية، وتطوير الصناعات الثقيلة، وصياغة دستور ميجي الذي تأثر بالدساتير الأوروبية. جلبوا ما يقارب 800 خبير غربي إلى اليابان، وكان مجموع رواتبهم عبئا شديدا على ميزانية الدولة حينها، وتأسيس نظام برلماني وإداري حديث. ولولا هذه البعثة لكانت اليابان مستعمرة لإحدى الدول.
اليابان التي كانت معزولة ومحدودة الأفكار، لم تستح من فشلها، وأرسلت بعثة لتتعلم من الدول التي سبقتها، وخلال فترات بسيطة استطاعت أن تنافس الدول التي تعلمت منها وتجاوزتها. ولكن قبل كل هذا كانت لديها الرغبة والإيمان في التطور. ولا يمنع أبدا أن نطبق هذه البعثة ويكون لدينا إيواكورا كويتي بما يتواكب مع روح العصر الذي نعيش فيه. ولكن مثل اليابانيين، قبل أن نفعل أي شيء، ويصبح عبئا على الميزانية، هل نملك الإيمان بالتطور والمقدرة على الاعتراف بضرورة العمل الجاد لتحقيقه؟
Tab6_khayran@