نوع الله النعم لعباده، منها ما هو نازل من السماء، ومنها ما هو خارج من الأرض، ومنها ما هو في جوفها، والبحار المتلاطمة الأمواج مذللة للإنسان، الفلك تمخر في أعلاها، وما في بطنها من الصيد والطعام بما فيه ميتته حلال لهم، وجواهرها من اللؤلؤ والمرجان ونفائس أخر حلية لهم ومال، والزمان خلق ودبر، فلا نهار سرمد ولا ليل بهيم، بل هذا وذاك، والأرض مدها فلا تضيق بالخلق، وبالجبال أرساها وأنبت فيها من كل زوج بهيج، بل كل ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما هبة من الله للإنسان، يستعين بها على طاعته، ولا تتم على العبد النعم إلا بالدين، ومن المنة على هذه الأمة أن بعث فيها أفضل رسله، ونزل عليهم أعظم كتبه.
ولعظيم منة الهداية أمر الله عباده أن يسألوه الثبات عليها والزيادة في كل ركعة من صلاتهم، فكان من دعائهم: (اهدنا الصراط المستقيم ـ الفاتحة: 6)، ومن رأى أن الله هداه وأدخله الجنة، وأضل غيره وأدخله النار عظمت نعمة الله عليه في قلبه، قال تعالى إخبارا عن المؤمن الذي رأى قرينه في النار: (تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ـ الصافات: 56 و57).
والعافية أعظم نعمة دنيوية، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله العافية» - أي: السلامة من الآفات والمصائب والشرور - «فإنه لم يعط عبد شيئا أفضل من العافية»، رواه أحمد، وكرم الله وافر وعطاؤه جزيل، ونعمه تزيد بالشكر، ومن شكرها الإقرار بأنها من الله، يقول صلى الله عليه وسلم في صباحه ومسائه: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» رواه أبو داود.
ومن شكرها: حمد الله عليها، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» رواه مسلم، والتحدث بها من شكرها، (وأما بنعمة ربك فحدث ـ الضحى: 11)، فمن شكر نعمة الهداية: الفرح بأن الله هداه وثبته، ومن شكر نعمة المال: التحدث بفضل الله عليك به، والتواضع لعباده والإنفاق مما أعطاك الله ابتغاء وجهه، والمعافى يتحدث بعافية الله له، ويعمل جوارحه في طاعته.
وتذكر المحرومين من النعم يزيد من قدرها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه يحمد ربه على النعم، ويتذكر من حرمها، قالت عائشة -رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي» رواه مسلم.
والنظر إلى من هو دونه في الدنيا يفتح باب القناعة، قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» متفق عليه.
والطاعة تحفظ النعمة وتزيدها، ومن أسباب دوامها: دعاء الله ليبقيها، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك» رواه مسلم.
وبقاء النعمة مقرون بالشكر، فإن لم تشكر زالت، قال سبحانه: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ـ إبراهيم: 7).
والمعاصي تدفع حلول نعمة نازلة، أو ترفع نعمة حادثة، وقد لا ترفعها ولكن تنزع البركة منها، أو تكون عذابا لصاحبها، وما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمة بحسب ذلك الذنب، قال ابن القيم - رحمه الله: «المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب».
وإذا رأيت نعمه سابغة عليك وأنت تعصيه فاحذره، فقد يكون استدراجا لك، قال - سبحانه: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ـ الأعراف: 182 و193)، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» رواه أحمد.
وكل نعمة وإن كانت يسيرة سيسأل عنها العبد هل شكرها أم جحدها، قال صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة - أي: من النعم - أن يقال له: ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد؟» رواه الترمذي، وقد يعذب المرء بالنعمة إذا لم يتق الله فيها، قال سبحانه: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ـ التوبة: 55)، فالله وهاب كريم يده ملأى سحاء الليل والنهار، وهو عليم حكيم يعطي كل عبد ما يلائمه من النعم، قال - سبحانه: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء ـ الشورى: 27).