تحتفظ ذاكرة البشرية بعديد من الشخصيات التي خُلدت أسماؤها بأحرف من نور، ولا تكاد تستحضر مجالاً من مجالات الحياة المتنوعة، حتى يأتيك السيل العرم جارفاً بأسماء تنتابك «ربكة أدبية» إن شئت تقديم اسم على آخر، وقد تهيأت الأسباب المختلفة، من عناية إلهية، ونبوغ عقلي، وذكاء حاد، وظروف مواتية، وبيئة متماسكة، حتى تشابكت هذه وتلك، لتقدم تلك العبقرية الفريدة في مجالها.
ولكن - مرهقة متعبة «لكن» الاستدراك عندما تعترض طريقك فجأة - هناك أناس لم يحظوا بتلك القدرات الاستثنائية الخاصة، فلم يتركوا بصمة محفوظة بين طيات الكتب، ولم تسعفهم ملكاتهم على الخلود الدنيوي، الأخفياء عن أعين العامة من الناس، ممن «إذا حضر لا يعدّ، وإن غاب لا يُفتقد»، يغلب عليهم قلة الكلام، وإن تحدثوا أوجزوا، استقبلتهم الحياة بوجه عابس، فمنهم من لطمته باليتم المبكر، فحرمته من أجمل المشاعر وأعذبها، وهناك من وضعت «الأوغاد» في طريقهم، وزرعتهم بشكل هندسي معقّد على مدى سنيّ عمرهم، تماماً كحقل ألغام شائك، ما أن يتخطى أحدهم واحداً، حتى يتربصه الآخر بالموت أو العجز، وهم في أغلبهم، كمن دخل «صالة القادمون» بعد طول سفر ومشقة، فجال ببصره، فإذا الجميع في بهجة الاستقبال، بين حاضن وباسم ودامع، وهو يمشي تائهاً بين الجموع، فلا قريب مقبلا، ولا الأيام تركت له صديقا يضمه كوطن مواسيا غربة العودة، فيمضي جلدا ظاهرا، منكسرا في أعماقه، وبروح متشظية منكسرة باكية.
الأخفياء.. بين ظهرانينا، في «الديوانيات»، والعمل، ومنهم من نلتقيه مصادفة، فحديث عابر قد ينتهي بابتسامة هادئة.. الأنقياء بالفطرة، ليس لهم من الحظ إلا ذاك القدر الضئيل الذي يبقي أيامهم متصلة مملة في أغلبها، وهم على قدر قسوة الحياة التي يكابدون، تجدهم، صابرين ومقبلين، مبادريون ومتوكلين، وكأنهم بلسم هذه الأرض، واكسير الحياة المتجدد، وكأن البركة تحفهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وكأن عناية رب السماء لا تغادرهم في كل حين..
يقول المولى عز وجل (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) «سورة الطور 48».
[email protected]