الأيام متثاقلة بطيئة حد الإرهاق، لا تسير بنمط ثابت، يشوبها الحذر المترع بالخوف والريبة، والاضطراب القلق يترصدك في كل ساعاتها الطويلة، اليد الآثمة موغلة في طغيانها، ومعاول الهدم لا تغادر صغيرة وكبيرة إلا وطاولتها بالخراب، وفي معمعة التغيرات الكبيرة، وترادف الأحداث والحوادث، لا تكاد تجد لحظة تتنفس بعمق لتستوعب المشهد أو جزءا منه.
«الحلم الجميل» تحول فجأة إلى كابوس بغيض، البدل العسكرية منتشرة في كل مكان، الأسلحة مشهرة، والوجوه متأهبة عابسة، ونقاط التفتيش أخذت مواقعها في جميع المناطق، تلك كانت زاوية ضيقة لاختلاط قسري بين المدنية والعسكرية، ويوما بعد آخر، بدأ واقع مرير يفرض إيقاعه بقسوة على الحياة اليومية، ليغيرها رغما عنها إلى ما يريد ويأمل.
الجهراء.. لم تعد واحة كما عرفت يوما، بيوت مهجورة، شوارع فارغة، محلات مغلقة، خلطاء مشبوهون، حصان نافق على الطريق، و«دور» طويل جدا على المخبز، تقف لما يقرب من 4 ساعات متواصلة، لتخرج بخمسة أكياس فقط، وإن سلمت من كلمة بذيئة من «العسكري» فأنت في مغنمة مضاعفة، الخبز و«كسرة» من كرامة متبقية.
التغيرات جوهرية، والانحدار في تسارع مطرد، في طريقي يوما إلى البيت، بعد جولة عبثية قصيرة في «سوق سوادي»، الذي تكون في لحظة مظلمة، وشهد عمليات نوعية للمقاومة الكويتية، التقيت بأحدهم، ولا أذكر كيف بدأ الحديث، وجل ما أذكره «إن لم تأخذ (تسرق) سيأخذه غيرك»، فأجبته هذا مبدأ حرامية، رمقني شزرا، وأدار ظهره مبتعدا.. تغير الإنسان مر، لكن تغير مبادئه أكثر مرارة.
تجليات الاغتراب في الوطن عديدة ومتنوعة أيام الغزو الغاشم، ولعل من بين أكثرها وضوحا «الچريمبة»، التي حضرت على الرؤوس، بعدما تخلى «العقال» عن موقعه الرفيع فوق هامات الرجال والشباب حزنا على الكويت، واحتجاجا على الغزو، وغدر صديق الأمس عدو اليوم، وفي غمرة الهم المتراكم يوما بعد آخر، وصبيحة يوم كسابقه في شهور الغزو المحرمة، وإذا بلحن هادئ يأتي عبر الراديو أراد له د.عبدالرب إدريس ألا يكون طاغيا على نبرة الحزن الممزوجة بالفخر، والتضحية المقرونة بالأم، والوطن أم، وبكلمات ملؤها الشجن، وحوار خاص جدا بين «الابن وأمه» صاغها المبدع دوما عبداللطيف البناي، وأنشدها الصوت العذب عبدالله الرويشد «يمه فدى لكويت.. فدى لكويت.. أصنع بيدي تابوتي».. تشعر بغصة خانقة، تتحدر دمعة باردة.. تتخلص من أغلال الأرض المغتصبة لحظة، فتحلق بين الأرض والسماء.. لعلها تصفو من جديد.
[email protected]