بعيداً عن السياسة وقصصها وتمثيلياتها التي لا تنتهي، سأناقش معكم قضية تربوية اجتماعية فرضت نفسها علي، ففي أحد محلات الخياطة النسائية جلست أنتظر دوري، فأمامي سيدة تجتهد لتوضيح الموديل للخياط الآسيوي عندما انفتح باب غرفة التبديل وخرجت فتاة شابة سعيدة بنفسها مبتسمة ترتدي ملابس المرحلة الثانوية، وقد أسدلت شعرها الكثيف على كتفها.
أخافتني الشرارة التي خرجت من عينيّ الخياط وابتسامته المريبة، فقفزت من مكاني وكأن الديسك والخشونة قد اختفيا فجأة واتجهت مسرعة نحو الفتاة، ولكن السيدة كانت أسرع مني، فقد خطفت علبة الدبابيس من يد الخياط، وبصوت قاس قالت: ابتعد أنا من سيرتب فستان الفتاة. كان موقفنا صارما رغم صوت الخياط العالي وبلغته التي لا نفهمها، وأظن أنه كان يسبنا، لم يستطع الخياط الاقتراب، فقد أصبحت الفتاة محاطة بي وبالسيدة التي قامت، جزاها الله خيرا، بترتيب وتثبيت الدبابيس لثلاثة فساتين مدرسية، وعندما طلبنا من الفتاة أن لا تحضر مستقبلا وحدها، ردت ببساطة: أمي قالت لي اذهبي فأنت كبيرة ويجب أن تثقي بنفسك وتقومي بقضاء حوائجك.
لا أعرف معيار الثقة بالنفس الذي قصدته الأم، لكنني عشت موقفا حقيقيا استفزني لربع ساعة من الزمان ولا يزال يراودني لأيام، الأبناء أمانة في رقاب أهاليهم ودعم الأسرة لأبنائها أمر مهم في التربية وبناء ثقتهم بأنفسهم سيسهم في بناء شخصياتهم وتكوينها خاصة عند تشجيعهم وتحفيزهم لمجابهة المواقف الاجتماعية والحياتية والتفاعل مع الآخرين من مختلف الأجناس والأعمار دون الاعتماد التام على الوالدين، ولكن الأخذ بالحذر والحيطة المنطقية أمر مستحب مع ضرورة الوعى بمدى قدرة الأبناء على مواجهة المواقف، أيا كانت، فتساهل الأم في قصتنا كان سيعرض الفتاة، لا قدر الله، لأمر مشين، قد يجعلها تخسر ثقتها بنفسها واستعدادها الشاب للحياة.
قد يقول قائل إن أبناء اليوم ليسوا كأبناء الأمس، فمعطيات الحياة تغيرت وغيرت معها وعي الأبناء في الحياة ومن حولهم، ولكن مهما كانت التغيرات تظل البيئة الآمنة وحب الوالدين واهتمامهم بأبنائهم ودعمهم مفاتيح رئيسية في بناء شخصية الأبناء وحمايتهم خاصة عندما ينجح الوالدان في تحقيق التوازن بين الحرص والاهتمام، وبين اللامبالاة والخوف المرضي والذي قد يصل إلى درجة الهلع على الأبناء.
حبنا وخوفنا على أبنائنا لا يعني أننا سندمر شخصياتهم، فالخوف غريزة طبيعية في البشر، وقد يكون ضرورة حقيقية لحمايتهم، خاصة ونحن نعيش زمن الانفتاح في كل الأمور وتخلخل القيم والأخلاق، لذا كان الوالدان مدرسة واقعية للأبناء، فهما يملكان من الخبرة الحياتية ما يساعدهما في حسن تقدير الأمور قدر المستطاع ووجودهما مع الأبناء لا يعني قمع الأبناء بل تدريبهم وتوعيتهم وحمايتهم إلى أن تتكون لديهم خبرات أكثر تساعدهم مستقبلا في الحياة وفي تقييم المواقف وتجاوز العقبات والعراقيل وبأقل الخسائر، حبنا لفلذات أكبادنا يستدعي مساندتنا لهم وتشجيعهم ودفعهم إلى الأمام مع التوجيه، ما سيسهم في تلقين الأبناء الوعي بذواتهم، كما ستتكون لديهم خبرات أكثر تساعدهم في تقييم المواقف وتجاوز العقبات والعراقيل والتعامل السليم مع المواقف الحسنة والسيئة والدفاع عن أنفسهم، عندها ستكون ثقتنا بهم حقيقية وليست ثقة زائفة.
[email protected]