أعتقد أن أكثر الناس ألماً هم أكثر الناس عقلا وتعقلا، فذاك الذي به ضرب من ضروب الجنون، أحيانا، قد يكون أكثر الناس راحة وهدوءا عند تلقيه شدائد الزمن، ووخزات الأيام، وأوجاع الحياة، وجروح الصدر!
فلمحة «الجنون» تلك المغطاة بشيء من «الطيش» قد تعطي الإنسان راحة بعض الشيء وهو يواجه معركة الحياة!
وقد يختلف معي البعض في هذا الطرح، ولكنني أشعر بأن تصوري صحيح من ناحية واقعية، فشاهدوا وجوه العقلاء وانظروا إلى عميق ألمهم، وشاهدوا وجوه المجانين وانظروا إلى عميق نعيمهم وهم يستقبلون أحداث الليالي والأيام!، ولعل قول المتنبي يفسر بعض ما أصبو إليه:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ودعونا نلقي نظرة على مشهد الحياة، لوجدنا أن صاحب العقل الرزين، المدرك، الواعي، الرصين، الذي يحسب للأشياء حسابا صحيحا ودقيقا، يتألم غاية الألم مع مجريات الأحداث، فهو حين يرى القتل والتشريد يتألم، وحين يتعرض لفقد عزيز، أو يعيش شدة له أو لوالديه، أو ينصدم بالملمات، فإنه يتألم غاية الألم! لأنه يحمل في جوفه «عقلا رزينا»، أما من به لمحة من الجنون والطيش فكل شيء يمر عليه مرورا عابرا، لأنه يعش حالة «من عدم التعقل»!
فالطيش والجنون وغيرهما، صفات لا تتقبلها النفس، ولكن في الحقيقة تجعل البعض أكثر راحة مع تلقي طعنات الحياة!، فأحداث الحياة مع كل أسف لم تجعل للعقلاء تحملا بسبب قوة صعقها وتتابعها وتفاقمها المستمر.
في هذا المقال لا أقصد أبدا الدعوة إلى الطيش والجنون وعدم الاتزان، ولكن هي مقارنة نعقدها لنعرف مدى تحمل كل واحد، وسنجد أن المجنون في نعيم، فعند مواجهة الصعاب هادئ وساكن، لأنه فقد صوابه! أما العاقل فيتألم لأنه ذو عقل واع، وذهن حاضر!
ولكن هناك استثناء بين كل هذا، وهي حالة ثالثة بين تلك الحالتين، يمثلها أصحاب العقل الرزين، ولكن: «المحفوف بالرضا والقوة بأمر الله»، فأكثر الناس جلادة هم أكثر الناس تعلقا بالله، فهم في نعيم مختلف، ويواجهون الحياة برضا وقوة ومتانة وهدوء وسكينة، لأن قلوبهم بالله متعلقة قبل عقولهم!، ومتسلحون بتوفيق الله، لذلك يشعرون بالنعيم بشكل فريد يختلف عن نعيم المجانين، فنعيم المجانين خيار مفروض عليهم فرضا بسبب طيش عقولهم، ونعيم العقلاء هو خيار وفقهم الله له بسبب توكلهم العميق على رب العالمين سبحانه، وإيمانهم الراسخ، لذلك هم عقلاء في نعيم!
نسأل الله أن يرزقنا العقل الراشد، والقلب القوي الصابر، والحكمة والثبات عند التعاطي مع كل أزمة وشدة، وأن يرد كل من فقد صوابه إلى صوابه، ويرزقه سلامة النفس وقوة البأس.
٭ ختاما: كتبت هذه القصيدة في وقت سابق، أقول بها:
«أشلائي وأشيائي»
إن في الصدر جروحا لا تطاق
ارتوى منها فؤادي واستضاق
لم تدع لي لمحة فيها ضياء
أمتطي أنوارها حتى الفواق
بين أشلائي وأشيائي أقامت
واستبدت لا تريد الافتراق
كيف يحلو لي مقام في الحياة
ودماء بين أشلائي تراق؟
كيف يحلو لي ابتسام وابتهاج
وعناق الصدر يعلوه اختناق
كيف يحلو لي اقتراب واجتماع
كل ما فيّ ينادي بالفراق
كيف يحلو لي ارتياح وانشراح
ولسان الحال بؤس وانغلاق
إنها القسوة ما أقسى الحياة!
كل شيء لم يعد حلو المذاق.
HaniAlnbhan@