نعيش في زمن تطغى عليه كثرة التقلبات والتغييرات، في مختلف النواحي والمجالات، وانعدمت العديد من القيم، وتقهقرت الكثير من المبادئ، كما أن نسبة من المفاهيم تبدلت واضطربت حتى تكرست حالة أصبحت سمة ظاهرة في العديد من المجتمعات، وتفاقمت يوما بعد يوم، وأخذت العديد من الصور والأشكال، لتصبح سمة من سمات الحياة.
تكاد تكون «الوصولية» من أخطر وأفتك الأمراض، التي من شأنها الاعتلاء على حساب الفتك بالمصلحة العامة للدول والمجتمعات والشعوب وحتى الأسرة من قبل مجموعة أشخاص مصابين بالتلون والوصولية.
الثبات على القيم والمبادئ والثوابت، وعدم التقلب والتأرجح والتلون، مهما كانت الظروف قاهرة والأمواج كبيرة، هذا الأمر ينبع من أعماق شخص متيقن حق اليقين بأن النفع والضرر والرزق والحياة بيد الله تعالى وحده لا شريك له، لذلك تجده ثابت الموقف واضح المبدأ، وهم للأسف قلة قليلة في زمان الفتن والمغريات.
كم نحن بحاجة في زمن الفتن للثبات على المبدأ، والاستقامة على القيم، ورسوخ العقيدة، ودوام النهج السديد، فهي الحصانة من التلون والانتكاس والمراوغة، ومصدر القبول والانتصار في محيط الشخص وتأييده ودعم مواقفه والدفاع عنه، أما عن الشخص الوصولي الذي يسعى لتحقيق أهدافه، والوصول لغاياته ومصالحه، وإن كانت على حساب الآخرين ومصالحهم، وذلك باستخدامه لجميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة، حتى لو وضع يده بيد الشيطان، وشعاره قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة» تجده بعد فترة وجيزة من الزمن يصبح منبوذا وحيدا لا يلقى قبولا بين محيطه، ليس حوله غير التبع المستفيدين.
وللوصولي العديد من المظاهر والأشكال والهيئات، تختلف من بيئة لبيئة، ومن زمن لآخر، وبحسب الأحوال والمعطيات، واقتناص الفرص والمتغيرات، وقد يشترك بأكثر من مظهر ويفترق مع غيره بهيئات أخرى، والمعيار هنا الذي يحدد ذلك هو الوسائل والمصالح والمطامع التي يستغلها للوصول لطموحاته ولتسلق المناصب والوجاهات.
قد يتصف بالوصولية كثيرون، أشخاص أو مجموعات أو تكتلات، ويمكن التقاء مصالح عدد من الوصوليين والانتهازيين من مختلف التوجهات، فبعضهم إسلامي أو علماني أو طائفي، وقد يكون أيضا بينهم مثقف أو كاتب أو شاعر أو فنان أو رياضي أو إعلامي أو قانوني، فجميع مفاصل المجتمع معرضة للسقوط في شباك هذا المرض الفتاك.
الشخصية الوصولية مستعدة للتخلي عن القيم والمبادئ، والتقولب بقوالب جديدة حتى لو تنافت مع مفاهيمه، والتأطر بإطار جديد، وبارعة في الانتقال من مركب إلى آخر حتى لو لم يكن بينهم إلا فاصل زمني بسيط أو حدث أو موجة جديدة، وبالتالي يتيح لنفسه استخدام أساليب النفاق والتملق والتزلف، لكسب الود، وهو بداخله يعلم أنه منبوذ، لا وجه له أمام محيطه، ويقوم مضطرا بذلك سعيا لتحقيق أهدافه وغاياته ومصالحه، بأية صورة ووسيلة مشروعة أم لا، ويستثمر علاقته بالآخرين ونفوذه حتى لو كانت على حساب مبادئه، وعمقه المجتمعي حتى لو تعارض مع ثوابته وسلوكه، بل حتى لو كانت على حساب الدين والقيم، أضف إلى ذلك سياسة التدليس والانتهازية للوصول إلى القمة على حساب جراحات وآلام الآخرين!
الوصولي ليس له مبدأ ثابت ولا طريق واضح، يتلون كما تتلون الحرباء، مع تميزه باللعب في العبارات والتناقض في التصريحات، والاضطراب في المواقف، فهو مع الريح والسائد والغالب، موقفه متذبذب لا يستقر إلا وفق هواه ونظرته القاصرة المصلحية.
والطامة الكبرى هنا التي تبقى وتطيل في وجود الوصولي هم المصفقون المطبلون الموافقون بكل شيء علموا أو لا يعلمون! الذين لولاهم لسقط في ثوان وفي أول مواجهة وموقف متناقض.
وقد يكون الوصولي في منصب أو مركز مرموق، وهذا أمر مؤسف منتشر في هذا الزمان، وقد يكون الثابت صاحب المبدأ معزولا مهجورا، إلا أن الأهم في الأمر أن كلا منهم يعرف قيمته في ذاته وهي الباقية والأهم.
دمتم بخير وسلام.