أثرى د.محمد الجويلي المكتبة العربية بالكثير من الإصدارات المهمة، تلك التي تتمتع بمنهج فكري يرتكز في معظم سياقه على التراث، وفي الوقت نفسه التواصل بقدر كبير من المصداقية مع الإنسان في تطلعاته وآماله وحياته.
وفي الفترة الأخيرة صدرت للجويلي ثلاثة كتب عن معهد الشارقة للتراث، وهي «الإنسان على لسان الحيوان» و«الطفل المتروك لحاله.. في الحكايات الشعبية العربية»، و«الأم الرسولة.. رسالة الأم في الحكاية الشعبية العربية»، وهذا الإصدار دراسة أنثروبولوجية نفسية، بينما صدر له كتاب آخر «من الحطب إلى الذهب»، عن الملحقية الثقافية السعودية في فرنسا ضمن منشورات ضفاف، وهو مقارنة أنثروبولوجية بين حكاية سعودية وحكاية فرنسية من التراث الشفوي: «صفير» للجهيمان و«الأصبع الصغير» لبيرو.
وقبل الحديث عن تلك المنجزات المعرفية للجويلي، علينا أن نعرج بشيء من الإيجاز إلى سيرة المؤلف المهنية والعلمية، حيث إنه حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس، ومدير دراسات في الأدب العربي- تونس، وأستاذ تعليم عالٍ زائر في العديد من الجامعات العالمية.
وسنركز في حديثنا عن كتابه «الإنسان على لسان الحيوان»، الذي يعد من الكتب التي تتمتع بالخيال الإيجابي، الذي يترصد الحياة وأحوال الناس، ومن ثم وضع تلك الأمور في حكايات على لسان الحيوان، من أجل التوعية والاتعاظ والإرشاد، حيث إن الحكاية حينما تأتي في سياق خيالي يرويها الحيوان، فإنها تتميز بالتشويق.
ومن ثم أسقط الجويلي هموم وقضايا الإنسان، في صراعاته العقائدية والسياسية، من خلال الحكايات التي تجري على لسان الحيوان في الثقافة العربية، سواء الشفوية أو المدونة، وبالتالي وضعها على طاولة التحليل والتأويل لكشف وظائفها التعليمية بالتخويف أو الإضحاك، وأوضح الجويلي أن الحكاية التي يكون أبطالها من الحيوان، تعد من دون مبالغة موسوعة أخلاقية متكاملة.
فهذه الحكايات الموجهة للكبار والصغار معا، لها فائدة تعليمية كبيرة، وتؤتي نتائجها بشكل ملحوظ وواضح، مثل التي أتت في كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع.
ولقد تنبه المؤلف إلى شرح الفلاسفة والحكماء لوظائف هذه الحكايات حيث يرى ـ مثلا ـ ميشال دي سرتو أن النصوص الشفوية الترفيهية بصفة عامة تختلف عن المعيار البيداغوجي للنصوص التقليدية الواعظة وهي على خلاف النصوص التي ينبغي الاعتقاد فيها أو تطبيق تعاليمها، كما شرح المؤلف مسألة الإضحاك في هذه الحكايات، وكذلك التخويف للحض على تقبل الموعظة والإرشاد، فالغيلان والذئاب والسباع ترميز لما يوجد في الطبيعة الإنسانية ذاتها من ميل إلى العدوانية واضطهاد القوي الضعيف، فيما تطرق إلى قصة حي بن يقظان لابن طفيل، والتي تحكي سردا خياليا، لإنسان خالط الحيوانات وعاش معها في طفولته وصباه، حيث أرضعته الظبية وصادقته وتآلفت معه الحيوانات، وأصبح له فلسفته ورؤيته الخاصة، التي لم تتلون بمخالطة الإنسان.
فيما أشار الجويلي إلى صدى حكايات الحيوان العربية في الغرب الأوروبي منذ عام 1881، بالإضافة إلى حكاية الحيوان في يوتوبيا الإنسان من خلال كليلة ودمنة، كما تطرق إلى حكايات شعبية تجري على لسان الحيوان في بعض الدول العربية.
وجاءت الحكايات على لسان مختلف الحيوانات مثل الأرنب والذئب والحمار والنعجة والعنز.. إلخ، تلك التي اتسمت بالتماهي مع أحوال الإنسان، وما يحتويه عالمه من خير وشر، وصراع ملتبس وغير منطقي بين بني البشر، وذلك على سبيل الدعوة إلى الحب والسلام، ونبذ العداوة التي لا تجلب إلا الخراب والدمار.
إن الجويلي أخذنا في رحلة شيقة عبر الأزمنة والخيالات العربية، ليرصد لنا تلك الحكايات التي تخص الإنسان إلا أن رواتها وأبطالها من الحيوان، للتعليم والعظة، ومن ثم تحليل وتفسير تلك الحكايات، للتوصل إلى نتائج مثيرة وشيقة، تدخل في سياق التعليم والتربية.